اجراءات الفيدرالي الامريكي والمركزي العراقي لم تحقق شيء سوى زيادة كلفة تهريب الدولار، وزيادة على ذلك قادت الى فوضوية أكبر في السياسة النقدية في العراق واظهرت الى السطح بصورة اوضح تبعات الفساد المالي والاداري وحتى السياسي في نافذة بيع العملة، كما ان تلك الاجراءات لازالت بعيدة عن جذور المشكلة...
بعد ساعات من إعلان رويترز منح وزير الخارجية أنطوني بلينكين الحكومة إعفاء لمدة 120 يومًا يسمح للعراق -الذي يعتمد بشكل كبير على الكهرباء الإيرانية- بإيداع المدفوعات في بنوك غير عراقية في بلدان ثالثة لصالح ايران بدلاً من الحسابات المقيدة في العراق، وبعد ان وافقت وزارة الخزانة مؤخرًا على دفع 2.5 مليار يورو (أي ما يعادل حوالي 2.8 مليار دولار) للديون غير المسددة من قبل الحكومة العراقية لواردات الكهرباء والغاز الإيرانية، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية وبنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك يوم الأربعاء 18تموز 2023 عقوبات على 14 مصرفا عراقيا لمنع إجراء معاملات بالدولار في إطار حملتها على الفساد وتهريب الدولار الى إيران وفقا للبيان.
ومن المحتمل أن تثير هذه الخطوة توترات جديدة بين بغداد وواشنطن ويمكن أن تؤدي الى مزيد من الاضطرابات الاقتصادية للعراقيين العاديين بعد ان استأنفت اسعار الدولار الحقيقة صعودها حتى تجاوزت 1500 دينارا للدولار الواحد.
تفيد بعض التقارير ان الضغوط التي فرضها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على البنك المركزي العراقي للحد من الفساد والتدفقات غير المشروعة للدولار التي تتضمن إلزام البنوك العراقية لاستخدام منصة على الإنترنت للكشف عن تفاصيل معاملاتها والتي دخلت حيز النفاذ في كانون الثاني 2023، ادت الى شل الأسواق العراقية وشجعت على نطاق واسع تهريب الدولار عبر الحدود.
ومن خلال فرض قيود جديدة على مزاد الدولار العراقي، والذي تستخدمه بغداد لتحويل الدولارات الأمريكية التي تلقاها لمبيعات النفط، وضع مجلس الاحتياطي الفيدرالي العراق في واحدة من أكبر الأزمات المالية التي واجهها منذ عام 2003 بسبب عدم قدرته على تحويل دولاراته النفطية الى دينار بالسهولة التي كانت عليها في السابق، تكافح الحكومة العراقية لدفع التزاماتها، بما في ذلك رواتب ملايين الموظفين العموميين، والرواتب التقاعدية والرعاية الاجتماعي.
بمواجهة ذلك اتخذت الحكومة العراقية عدة خطوات عاجلة لمواجهة الأزمة. وقد فتحت المزيد من مكاتب صرف العملات الرسمية، وأطلقت خطة لتشجيع صغار التجار والمستثمرين على استخدام مزاد الدولار، وعلقت الضرائب على بعض السلع، وقدمت الإعانات، ومع ذلك، لا تزال مبيعات المزاد بالدولار أقل بكثير من المتوسط. ونتيجة لذلك، أسعار صرف الدولار في السوق السوداء آخذة في الارتفاع. كذلك فإن معظم البنوك الخاصة لم تسجل على المنصة ولجأت الى الأسواق السوداء غير الرسمية في بغداد لشراء الدولار.
وقال مسؤولون عراقيون ومصرفيون وأصحاب شركات صرافة ووساطة مالية لموقع Middle East Eye إن الإجراءات أدت إلى إحجام التجار وأصحاب رؤوس الأموال عن المشاركة في المزاد لتجنب الكشف عن هوياتهم والغرض من التحويلات المالية وهوية المستفيد النهائي وغيرها من المعلومات الحساسة. وبدلاً من ذلك، لجأوا الى السوق السوداء وغيرها من الطرق غير الرسمية للحصول على الدولارات، مما أدى الى ارتفاع كبير في تهريب الدولارات من العراق عن طريق البر اذ ان كبار العملاء لا يريدون الكشف عن أي معلومات تتعلق بمصادر أموالهم أو هوياتهم لأسباب أمنية أو مالية، والبعض لا يريد إضاعة الوقت في الإجراءات الورقية الروتينية.
ان هذه الآلية لم تعد متوفرة الآن وبالتالي هناك اعتماد كبير على السوق السوداء لتأمين الدولارات وتحويلها عبر منافذ غير رسمية ولن تستغرق العملية أكثر من 10 دقائق، وسيجد العملاء الدولار في دولة مجاورة، طالما أنهم على استعداد لدفع فرق سعر الصرف.
وقال اثنان من مستشاري حكومة السوداني لموقع Middle East Eye ان المعلومات الاستخباراتية تشير الى أن عمليات تهريب الدولار قد نمت مؤخرًا عن طريق البر عبر إقليم كردستان شبه المستقل في شمال العراق، ومن هناك إلى تركيا أو دبي. ورداً على ذلك، أقامت الحكومة العراقية عدة نقاط تفتيش جديدة مزودة بأجهزة سونار على طول الطريق من بغداد إلى كردستان. وشنت قوات الأمن حملة لتعقب تجار العملة والوسطاء الذين يشترون ويبيعون الدولارات في السوق السوداء، واعتقلت العديد منهم بالفعل خلال الاشهر القليلة الماضية. وهذا اثار فزع مكاتب الصرافة، التي تحصل على حصة يومية ثابتة من مزاد الدولار، وبالتالي توقف معظمهم تقريبًا عن بيع الدولارات إلا لزبائن معروفين خوفًا من الاعتقال. ورغم تلك الاجراءات، يتم تهريب ما لا يقل عن (70 مليون دولار) يوميًا من العراق عبر المنطقة الكردية، وفقًا لما قاله مصرفيون ومسؤولون عراقيون لموقع Middle East Eye.
كما ان الاجراءات التي اتخذها البنك المركزي العراقي فاقمت من حدة الازمة وزادت من الارباح التي يحصل عليها أصحاب شركات الصرافة المتورطة في تهريب الدولار. اذ أن الأرباح التي يحققها هؤلاء مقابل توفير الدولارات المطلوبة للتجار وأصحاب رؤوس الأموال سواء في دبي أو تركيا، تضاعفت عشرات المرات.
يعتقد المسؤولون الأمريكيون أن إيران، التي تخضع لعقوبات شديدة، تتلاعب بالمزاد للحصول على العملة الصعبة، وأن البنوك العراقية وشركات الصرافة شاركت في المزاد، وشراء الدولارات بسعر ثابت وبيعها في الشارع بسعر أعلى بكثير. ويعتقد المسؤولون الامريكان ان اجراءات الاحتياطي الاميركي نجحت، حيث قللت من التجارة غير المشروعة بالدولار الى دول مثل سوريا وإيران، وساعدتهم في التعرف على البنوك الـ 14 المدرجة في القائمة السوداء.
يقوم السماسرة الآن بشراء الدولارات من شركات الصرافة هذه ونقلها برا الى كردستان. وقال ثلاثة من أصحاب شركات الصرافة والوساطة المالية ومسؤولون عراقيون لموقع Middle East Eye ان مجموعة من المسؤولين والسياسيين المحليين المؤثرين يأخذون هذه الدولارات عبر معبر إبراهيم الخليل الحدودي الى تركيا. وقال مالكو شركات الصرافة إن السلطات التركية تتقاضى رسوم كمركية (5 دولارات) عن كل (10 آلاف دولار). ويتم إيداع الأموال المهربة في حسابات خاصة في البنوك التركية، ويجد البعض من هذه الاموال طريقها الى حسابات بنكية خاصة في دبي وغيرها.
أخبر مالكو شركات الصرافة والسمسرة المالية موقع Middle East Eye أن تكلفة تحويل الأموال إلى الخارج قد زادت مرة ونصف المرة خلال الأسبوع الماضي، حيث أصبحت العملية "أكثر صعوبة وأكثر تكلفة". اذ ان الرسوم التي يتقاضاها المهربون عند إخراجهم الدولار نقدا من العراق قاربت الـــــ 15 ألف دولار لكل مليون دولار. اخيرا قال مسؤول مالي عراقي كبير لموقع Middle East Eye: "لا ترى اللاعبين الحقيقيين هنا، معظم أولئك الذين يديرون شركات صرافة الدولار هم أدوات. إنهم ليسوا أكثر من بطاقات جاهزة للحرق عند الحاجة".
خلاصة القول ان اجراءات الفيدرالي الامريكي والمركزي العراقي لم تحقق شيء سوى زيادة كلفة تهريب الدولار، وزيادة على ذلك قادت الى فوضوية أكبر في السياسة النقدية في العراق واظهرت الى السطح بصورة اوضح تبعات الفساد المالي والاداري وحتى السياسي في نافذة بيع العملة، كما ان تلك الاجراءات لازالت بعيدة عن جذور المشكلة وهي الفساد السياسي والمالي في نافذة بيع العملة وانعدام الشفافية والرقابة، وعدم سيطرة الدولة ومؤسساتها على كامل اقليمها.
البنك الاحتياطي الفيدرالي الامريكي ووزارة الخزانة الاميركية لن يتوقفا عند هذا الحد، بل في ظل التوترات الامنية في المنطقة عقب محاولة إيران اعتراض سفن تجارية في الخليج العربي وارسال الولايات المتحدة لـ طائرات F-35 وF-16 والمدمرة Uss Thomas Hudner، ستزداد الرغبة الاميركية في منع إيران وجهات اخرى في المنطقة من الحصول على الدولار.
الإصرار على استدامة المكاسب المالية من قبل جهات متنفذة متحكمة بنافذة بيع العملة وتهريب الدولار رغما عن الحكومة والمركزي العراقي ستدفع بسعر الصرف الحقيقي للدينار العراقي الى الانخفاض اكثر مقابل الدولار، وسيدفع الفيدرالي الامريكي الى مزيد من التصعيد في الاشهر القادمة ليس اقلها ان تطال العقوبات بنوك ومصارف خاصة اخرى وربما تطال المركزي العراقي نفسه والتخلي عن ضمان البنك العراقي للتجارة المسؤول عن كثير من التحويلات من والى العراق، وربما منع الحكومة من الوصول الى احتياطاتها من الدولار في البنك الاحتياطي الفيدرالي الامريكي. وستكون الفوضى حينها ليست اقتصادية وتجارية فحسب، بل سياسية وامنية.
اضف تعليق