تعد الأحزاب السياسية إحدى أدوات التنمية السياسية في العصر الحديث، فكما تعبر سياسة التصنيع عن مضمون التنمية الاقتصادية، تعبر الأحزاب والنظام الحزبي عن درجة التنمية السياسية في النظام السياسي الديمقراطي. وهناك ارتبط وثيق بين مفهوم "الحزب السياسي" ومفهوم "الديمقراطية" حتى قيل: "لا ديمقراطية من دون أحزاب ولا أحزاب من دون ديمقراطية".
والحزب السياسي هو (جماعة من الأفراد تربطهم مصالح ومبادئ مشتركة، في ظل إطار منظم، لغرض الوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها لتحقيق أهدافهم خدمة للصالح العام ومن خلال الوسائل الدستورية)، وللحزب هيكل تنظيمي يجمع قادته وأعضاءه، وله جهاز إداري معاون، ويسعى الحزب إلى توسيع دائرة أنصاره بين أفراد الشعب.
تاريخيا، ارتباط ظهور الأحزاب السياسية إما بالبرلمانات؛ إذ أنه مع وجود البرلمانات ظهرت الكتل النيابية، التي كانت النواة لبزوغ الأحزاب. وإما بالتجارب الانتخابية في العديد من بلدان العالم، وهي التجارب التي بدأت مع سيادة مبدأ الاقتراع العام. وإما بمنظمات الشباب والجمعيات الفكرية والهيئات الدينية والنقابات، أو بوجود أزمات التنمية السياسية؛ فأزمات مثل الشرعية والمشاركة والاندماج أدت إلى نشأة العديد من الأحزاب السياسية. كما ظهرت الأحزاب السياسية كنتيجة لقيام بعض الجماعات لتنظيم نفسها لمواجهة الاحتلال الأجنبي لدولها، وهو الأمر الذي يمكن تلمسه على وجه الخصوص في الجيل الأول من الأحزاب السياسية التي ظهرت في بعض بلدان العالم العربي وأفريقيا.
في العراق، وفي ظل تشريع قانون الأحزاب السياسية لسنة 2015، وبعد انتظار طويل، يطرح السؤال الآتي: هل قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية في العراق أخذ بالمعايير الوطنية للنظام الديمقراطي في العراق؟ وهل اعتمد هذا القانون على بعض المعايير الدولية لتأسيس الأحزاب السياسية، كما في مفهوم تأسيس الأحزاب السياسية في الدول الأوربية؟
أولا: التأسيس:
عرف قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية الجديد، الحزب أو التنظيم السياسي في المادة 2/أولا: الحزب أو التنظيم السياسي: هو مجموعة من المواطنين منظمة تحت أي مسمى على أساس مبادئ وأهداف ورؤى مشتركة تسعى للوصول إلى السلطة لتحقيق أهدافها بطرق ديمقراطية بما لا يتعارض مع أحكام الدستور والقوانين النافذة.
وهذا التعريف ينسجم مع التعريف الشائع للأحزاب السياسية؛ من حيث وجود جماعة منظمة من الناس، لها اسم معين، وتحمل أفكار وقيم مشتركة، وتهدف للوصول إلى السلطة، بطريقة التداول السلمي للسلطة، ومن خلال الوسائل الدستورية، أي عدم تعارض مبادئ الحزب أو التنظيم السياسي أو أهدافه أو برامجه مع الدستور والقوانين العراقية النافذة.
ثانيا/ العضوية:
منح قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية لكل المواطنين العراقيين حق تأسيس حزب أو تنظيم سياسي أو الانتماء إليه أو الانسحاب منه. فقد نصت المادة (4) على أن للمواطنين رجالاً ونساءً حق المشاركة في تأسيس حزب أو تنظيم سياسي أو الانتماء إليه أو الانسحاب منه مع عدم إجبار أي مواطن على الانضمام إلى أي حزب أو تنظيم سياسي أو إجباره على الاستمرار فيه.
إلا أن المادة (4) قيدت هذا الحق؛ بحزب أو تنظيم سياسي واحد وعدم جواز أن ينتمي أي مواطن لأكثر من حزب أو تنظيم سياسي في آن واحد؛ ومن يرغب بالانتماء إلى حزب آخر عليه أن ينهي عضويته في الحزب السابق، ويقدم طلب انتماء للحزب الجديد. ومهما كان عنوان الحزب أو أهدافه أو برامجه فلا يجوز تمييز مواطن أو التعرض له أو مساءلته أو المساس بحقوقه الدستورية بسبب انتمائه لحزب أو تنظيم سياسي مؤسس وفق هذا القانون.
وفي كلا حالتي التأسيس والعضوية، اشترط القانون الأحزاب الجديد في المادة (7/8) منه شروط إضافية هي أقرب إلى التنظيمية والإجرائية منه إلى الموضوعية؛ مثل أن يكون مع أسم الحزب السياسي شعاره المميز له. وأن يكون الاسم الكامل لكل حزب أو تنظيم سياسي واسمه المختصر وكذلك الشعار المميز له مختلفاً عن تلك العائدة لأحزاب أو تنظيمات سياسية سابقة. وأن يكون للحزب أو تنظيم سياسي برنامجه الخاص لغرض تحقيق أهدافه. وأن لا يكون تأسيس الحزب أو التنظيم السياسي وعمله متخذاً شكل التنظيمات العسكرية أو شبه العسكرية، كما لا يجوز الارتباط بأية قوة مسلحة. وأن لا يكون من بين مؤسسي الحزب أو التنظيم السياسي أو قياداته أو أعضائه من ثبت بحكم بات قيامه بالدعوة أو المشاركة للترويج بأية طريقة من طرق العلانية لأفكار تتعارض مع أحكام الدستور.
ثالثا/ المواطنة:
تؤكد المادة (5) من القانون على أن يؤسس الحزب أو التنظيم السياسي على أساس المواطنة وبما لا يتعارض مع أحكام الدستور. ولا يجوز تأسيس الحزب أو التنظيم السياسي على أساس العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التعصب الطائفي أو العرقي أو القومي. كما يمنع تأسيس الحزب أو التنظيم السياسي الذي يتبنى أو يروج لفكر أو منهج حزب البعث المنحل.
ولا شك أن تأكيد المادة (5) على مبدأ "المواطنة" في عضوية أي حزب أو تنظيم سياسي عراقي هو توجه سليم وينسجم مع المعايير الوطنية والدولية، وهي تعني بشكل واضح إن أي حزب يؤسس بالعراق لا بد أن يعتمد في عضويته على أساس المواطنة العراقية وليس على أساس ديني أو مذهبي.
وهذا لا يعني بأن على عضو الحزب أن يتخلى عن دينه أو مذهبه، ولكنه يعني إن الحزب الذي يؤسس على أساس المواطنة العراقية عليه أن يقبل عضوية المواطنين العراقيين بغض النظر عن دينهم أو مذهبهم، كما يحق لكل مواطن عراقي ممن تتوفر فيهم شروط العضوية الانضمام إلى أي حزب أو تنظيم سياسي باعتباره مواطناً عراقياً دون النظر إلى الدين أو المذهب ما دام يؤيد ويوافق على برنامج الحزب ونظامه الداخلي. وهذا المبدأ يتناغم مع الدستور العراقي، وهو مبدأ حديث وتأخذ به كل الدول المتحضرة.
رابعا/ الآليات الديمقراطية للحزب:
أكدت المادة (6) على أن يعتمد الحزب أو التنظيم السياسي الآليات الديمقراطية لاختيار القيادات الحزب أو التنظيم السياسي. وهذا من النصوص القيمة التي جاء بها قانون الأحزاب الجديد، فالأحزاب التي تؤمن بمبدأ الديمقراطية وتعلن ذلك في برامجها وأهدافها المستقبلية، وترغب بتحقيقها على مستوى الوطن، هي أولى من غيرها في أن تمارس الديمقراطية من داخلها؛ فتقوم بعملية انتخابية شاملة لجميع مسئوليها وأعضاءها الأساسيين.
ففي هذه الحالة فقط يستمدون شرعيتهم من القاعدة ويتحملون المسؤولية أمامها. ويتطلب ذلك أن يكون للأعضاء المحليين الحق في أن ينتخبوا رئيسهم وبقية المسئولين الحزبيين المحليين بأنفسهم، كما يجب أن يكون لديهم الحق في انتخاب المندوبين للهيئات الحزبية العليا، لإيفادهم إلى فرع المحافظة المسئولة وإلى مؤتمر الحزب على مستوى المحافظة. وبالتالي، فأنّ الأحزاب التي تنتهج هذه السياسة هي مؤهّلة أكثر من غيرها لاختيار قادة يتمتعون بالكفاءة وبحسّ المسؤولية، وأوفر حظاً بالفوز في الانتخابات.
خامسا/ الحقوق والواجبات الحزبية:
منح قانون الأحزاب الجديد الأحزاب السياسية مجموعة من الحقوق والامتيازات، وحملها في المقابل مجموعة من الواجبات والمسؤوليات. فقد نصت المادة (18) أن يتمتع الحزب أو التنظيم السياسي بالشخصية المعنوية والقانونية ويمارس نشاطه تبعاً لذلك. وجاء في المادة (20) أن مقرات الحزب أو التنظيم السياسي كافة مصونة ولا يجوز دخولها أو تفتيشها إلا بقرار قضائي وفقاً للقانون. وأن وثائق الحزب أو التنظيم السياسي ومراسلاته ووسائل اتصاله مصونة ولا يجوز تفتيشها أو مراقبتها أو التنصت عليها، أو الكشف عنها الا بقرار قضائي وفقا للقانون.
ويتمتع الحزب أو التنظيم السياسي الحق في المشاركة في الانتخابات والحياة السياسية وفق القانون والاجتماع والتظاهر بالطرق السلمية وفق القانون(21) وأن للحزب أو تنظيم سياسي إصدار صحيفة سياسية ومجلة سياسية أو أكثر، وإنشاء موقع الكتروني وامتلاك واستخدام وسائل الاتصال كافة للتعبير عن أرائه ومبادئه، وفق القانون (المادة22)، وأن للحزب أو تنظيم سياسي الحق في استخدام وسائل الإعلام لبيان وجهة نظره وشرح مبادئه وبرامجه المادة (23).
ومن الواجبات التي فرضها القانون على الحزب أو التنظيم السياسي هي الالتزام بأحكام الدستور واحترام سيادة القانون، واحترام مبدأ التعددية السياسية ومبدأ التداول السلمي للسلطة، وعدم المساس باستقلال الدولة وأمنها وصيانة وحدتها الوطنية، واعتماد مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين عند تولي المسؤولية أو المشاركة فيها، والمحافظة على حيادية الوظيفة العامة والمؤسسات العامة وعدم استغلالها لتحقيق مكاسب حزب أو تنظيم سياسي. وعدم تملك الأسلحة والمتفجرات أو حيازتها خلافاً للقانون. مضافا إلى تزويد دائرة الأحزاب أو تنظيمات سياسية بأية تحديثات على نظامه الداخلي وبرنامجه السياسي وأسماء الأعضاء المؤسسين والمنتمين حينما يطرأ عليها أي تغيير. وإعلام دائرة الأحزاب أو تنظيمات سياسية عن نشاطاته وعلاقاته بالأحزاب أو تنظيمات سياسية والمنظمات السياسية غير العراقية. وتحريك الدعوى الجزائية ضد أي من أعضائه عند مخالفتهم لأحكام هذا القانون المادة (24).
وإن على الحزب أو التنظيم السياسي أن يمتنع في ممارسته لأعماله عن الارتباط التنظيمي أو المالي بأي جهة غير عراقية، أو توجيه النشاط الحزب أو التنظيم السياسي بناءً على أوامر أو توجيهات من أي دولة أو جهة خارجية. أو التدخل في شؤون الدول الأخرى. والتعاون مع الأحزاب أو تنظيمات سياسية التي تحظرها الدولة أو يكون الحزب أو التنظيم السياسي أو تنظيم سياسي منفذاً للدول الأخرى للتدخل في الشؤون الداخلية للعراق. والتنظيم والاستقطاب الحزب أو التنظيم السياسي أو التنظيمي في صفوف الجيش وقوى الأمن الداخلي والأجهزة الأمنية الأخرى والقضاء والهيئات المستقلة. واستخدام دور العبادة ومؤسسات الدولة وبما فيها التعليمية لممارسة النشاط الحزب أو التنظيم السياسي أو تنظيم سياسي أو الدعاية لصالح أو ضد حزب أو تنظيم سياسي (المادة 25).
ومع أن الواجبات والمسؤوليات التي أوردتها المواد (24/25) تضمن نظريا عدم انحراف الحزب أو التنظيم السياسي عن مساره الدستوري والقانوني؛ ولكن نجد من الناحية العملية والواقعية لا يمكن لدائرة الأحزاب السياسية، وهي الدائرة المشرفة على تنظيم العمل الحزبي، أن تتحرى عن مدى قيام الحزب بتنفيذ تلك الواجبات والالتزامات. خاصة فيما يتعلق بقبول أموال عينية أو نقدية من أي حزب أو تنظيم سياسي أو جمعية أو منظمة أو شخص أو آية جهة أجنبية أو إرسال أموال أو مبالغ إلى جمعيات أو منظمات أو إلى أية جهة أجنبية، ونظن أنها ستبقى ورقا على حبر لحين تشريع قوانين وتعليمات من شأنها أن تدعم مبدأ رقابة تلك الدائرة.
خلاصة هذه القراءة، نرى الآتي:
1-إن قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية العراقي الجديد، جاء بشكل عام منسجم مع الأطر الدستورية والقانونية الوطنية، كما جاء متوافقا إلى حد ما مع المعايير الدولية المتعارف عليها في مجال الحقوق والحريات السياسية التي أرسيت في القانون الدولي من خلال المواثيق والصكوك الدولية لاسيما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي أعطت لكل فرد الحق في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون اختياراً حراً. وأن لكل شخص نفس الحق الذي لغيره في تقلد الوظائف العامة في البلاد. وإن إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة، ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على أساس الاقتراع السري وعلى قدم المساواة بين الجميع بالشكل الذي يضمن حرية التصويت.
2- إن قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية الجديد ألزم الأحزاب المسجلة في دائرة الأحزاب أن يكون لكل منها برنامج ينص على أهدافها ومبادئها السياسية، بحيث تتاح إمكانية الاطلاع على هذه الأهداف لكل مواطن. ومع ذلك يجب نشر نظام أساسي يصف البنية التنظيمية الداخلية للحزب بشكل علني وواضح. وبهذه الطريقة فقط تتشكل لدى المواطن المهتم صورة تتيح له اختيار الحزب الذي قد ينتخبه أو ينتسب إليه.
3- إن القيود التي وردت في قانون الأحزاب الجديد هي قيود معقولة ومقبولة إلى حد ما وهي أكثر تطابقا مع الواقع العراقي في ظل الظروف والمتغيرات السياسية، وإن كانت بعضها لا يتوافق مع المعايير الدولية، حيث يجوز أن يقيد حق المواطن بالمشاركة السياسية شريطة أن لا تكون هذه القيود على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي سياسياً أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الثروة أو النسب أو غير ذلك من الأسباب.
ولكن من أجل عدم الحد من حرية الرأي بطريقة غير قانونية يجب أن تكون أسباب منع حزب ما محدودة جداً. ففي ألمانيا على سبيل المثال هناك سبب واحد فقط يمكن أن يبرر حظر حزب، وهو إن كان الحزب يرمي إلى «إلغاء النظام الأساسي الديمقراطي الحر» لألمانيا الاتحادية.
4- مع ذلك فانا نعتقد أن عدد غير قليل من النصوص الواردة في قانون الأحزاب الجديد، غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع، ولا يمكن لدائرة الأحزاب ولا لغيرها أن تضبط عقائد تلك الأحزاب ولا سلوكها السياسي، ولا يمكنها أن تقارن بين ما هو مطابق للدستور والقوانين النافذة وبين ما هو ليس كذلك. وسيبقى الجدل قائما بشأن تلك النصوص ويجري تعدليها خلال فترة قصيرة من تطبيقها.
اضف تعليق