q

لا شيء يعميك غير الضوء الساطع، يباغتك فجأة دون استعداد. حين تكون في الظلمة، تترنح خطواتك، وهي تلامس الارض متعثرة، اي اختراق لهذه الظلمة يجعلك تشعر بدوار أكبر، لكنك بعد لحظات تستعيد هدوءك وتتزن خطواتك، وتأخذ بالتنفس بصورة طبيعية.

في الظلام تسمع صوت تنفسك الخائف بوضوح شديد، لكن في زحمة الضوء المنهمر عليك تفقد القدرة على الاستماع اليه، وفي الظلمة ايضا تسمع الصوت الخارج من حنجرتك او حناجر الاخرين بوضوح شديد، لكنك في انثيال الضوء تفقد تلك القدرة، هل ان الضوء له صخب وضجيج يطغى على كل شيء؟

هل يشبه هذا ما أفكر فيه الان؟

في عتمة العقل كثير من الافكار تراودني وتطمح الى الخروج من الظلام والاسر، لكني وفي لحظة الشروع بفتح النوافذ لها للخروج من هذه العتمة، اتردد كثيرا، اي فكرة ادعها تخرج الى النور وايها امنعها من الخروج؟

تبدأ الرقابة الذاتية في العمل، او هو ضمير الكاتب، او هي الشروط والمحددات لفعل الكتابة، لا اقصد الفنية منها، بل السياسية والاجتماعية والثقافية، وقدرة الاخرين على تفهم واستيعاب تلك الافكار.

هذا التفهم والاستيعاب هو فعل القراءة، بعد ان تخرج افكار الكاتب من ظلمة العقل واسره.

امتحان عسير يتعرض له الكثيرون من الكتاب امام صفحاتهم البيضاء، وهم ينظرون اليها ببلاهة، او توتر، او غضب.. ويريدون ان تمتلئ بهذا الحبر الاسود من نقرات الكيبورد او الاقلام. من يكتب بقلم الان؟

رغم ابتعادي عن الكتابة بالأقلام الا اني حتى اليوم لازلت اشتري مجموعات منها، لمجرد الاستمتاع بملامستها بين اصابعي، واختبار سلاستها من خلال تحميل الاوراق توقيعي وخربشاتي، اوكتابة اشياء اكثر حميمية عليها لا يستطيع الكيبورد الاقتراب منها او ملامستها والاحساس بها.

الصفحة البيضاء، حتى وهي تصنع بالوان الطيف هذه الايام، الا انها بقيت ملتصقة بهذا البياض، ربما يعود ذلك الى الصورة الذهنية القارة في اذهاننا عن الصفحة وعن البياض، والتي ساهمت اللغة في تجذيرها في وعينا، من ذلك مثلا: صَفْحة الشَّيء : وجهه وجانبه، وفي مجال البوح والانكشاف على الاخر: أبدى له صَفْحتَه : كاشفه وباح له بأسراره، وفي مجال الدعاء للآخرين: بيَّض اللهُ صفحتَه : جعله طاهرًا نقيًّا من العيوب، وفي مجال التخلي عن عادات وسلوكيات مذمومة والانقلاب عليها: طوى صفحةَ الماضي : تخلّى عمَّا سبق، وبدأ من جديد، او فتَح صَفْحة جديدة : بدأ بداية جديدة، تناسى الماضي وألغاه من اعتباره.

الى معاني اخرى تحيل اليها (الصفحة) مع البياض النقي.

مع استمرار الكاتب في الكتابة على الصفحة الماثلة امامه، ينحسر البياض الناصع الى الاطراف وبين السطور، وتحتل الوانا اخرى المساحة المنسحبة. لكن هذه الالوان وهي تنتشي بهذا الاحتلال والتقدم، تضيء رغم تلونها، وهي التي كانت قبل قليل اسيرة ظلمة العقل واسره، وهي في ازاحتها للون الابيض من على سطح الصفحة فهي تحتاج اليه لكي ينير الطريق امام القارئ.

حتى الظلام على سطح الصفحة البيضاء ينير العتمة، انه يطلق فراشاته (كلماته) ويخاصر الابيض الانيق، رغم ازاحته الى الاطراف او هو يخبئه تحت ظله.. اوليس الظل رمادي اللون وهو اختلاط الابيض بالأسود؟.

احيانا تباغتك فكرة ساطعة، متوهجة، وانت امام الصفحة البيضاء، لكنك لشدة هذا الوهج والسطوع لا تستطيع رؤيتها او الامساك بها، او ربما اكمال ما بدأت يجعلك اسيرا للاستمرار فيه.

هل وصلت الى اي مكان، اي ضوء، او اي ظل؟

مع التوغل في الكتابة لا تعود منتبها الى المساحات البيضاء الراحلة من الصفحة، تتابع بعينيك مربعات الحروف على الكيبورد، وترفعها قليلا الى الشاشة تشاهد تحولها وخروجها من الاسر، ضربات سريعة ومتلاحقة. هل اكملت تسويد صفحتك البيضاء.. اكملتها؟ وتضع نقطة اخر السطر.

اضف تعليق