يعيش معظم من يعانون من هذا الفراغ أزمات فكرية صعبة ومتكررة نتيجة لجمود ميزانهم الفكري وعدم تقبلهم للحقائق او الأفكار، وخلو خزانتهم الفكرية من الرصيد المعرفي، وبالتالي يصبح عرضة للتأثر بالمعلومة السريعة والاعلام الموجه والمظاهر الشكلية دون الاهتمام بالجوهر وعناء البحث عن الحقيقية والتفكر والتأمل وغيرها من الممارسات...
يمكن ان يشكل الفراغ الفكري لدى الانسان حالة مرضية مزمنة تؤدي، مع الوقت، الى تدمير حياته، مالم يدرك ذلك بعد تشخيص الخلل والعمل على تداركه، قبل فوات الأوان، لان هذا الامر يجعل مستوى مناعة الانسان صفرا ويعرضه الى خطر اصابته بفايروس الانحرافات الفكرية في أي لحظة، واستسهال هضم النفايات المعرفية بلا فلترة، واستهلاك القيم المادية المنتشرة في زمن تعددت فيه العوالم التي نعيشها في وقتنا الحاضر.
والفراغ الفكري اصطلاحاً "يُطلق على خلو العقل والفكر مما ينفع ويفيد، وليس شرطاً أن يكون الفارغ فكريا ممتلئا بما لا يفيد ولكنه قد يكون خال مما يفيد، مما يجعل صاحبه مؤهلًا للتأثر بأي فكر وأي منهج بغض النظر عن محتواه العلمي ودرجة صحته، ولأن امتلاء العقل والفكر بالعلم والمعرفة يكون رصيدا قويا ضد الانحراف ومانعا صلبا من الضلال".
ان تغييب العقل بصورة جزئية او كلية وتعطيل وظيفته التي اوجدها الله (عزوجل) من خلال اهدار طاقاته المودعة فيه، وقطع المغذيات الفكرية له، والتي تأتي عبر القراءة والتعلم والتأمل والتفكر، والاستزادة من العلم والمعرفة، تؤدي الى الإصابة بداء الجهل، او تسهل من عملية التجهيل (الانسان/المجتمع) المقصودة والممنهجة والتي تسهل عملية السيطرة والخضوع والتسيير.
بخلاف تغييب العقل المؤدي الى "الفراغ الفكري"، فإن التفكر والتعقل والتأمل والتعلم، كلها منشطات فكرية تمنح الانسان الحكمة وكمال العقل والرصانة الفكرية المطلوبة في موازنة الأمور واختيار أفضل الطرق المعرفية، وكما يقول المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي: "كلما ازداد الإنسان علماً، ازداد قدرة على توجيه الناس وهدايتهم، فيزداد قرباً إلى الواقع، وبذلك يكون أقرب إلى الاستقامة وأبعد من الانزلاق والتفريط والإفراط، ولذلك كانت الدعوة في الآيات والروايات إلى التفكر والتدبر والسير في الأرض والاعتبار بقصص الماضين".
لقد وردت العديد من الأحاديث الشريفة عن النبي محمد (ص) والائمة الطاهرين (ع) في أهمية التفكر والتدبر والتأمل لمليء الفراغ الفكري والاستزادة من الحكمة والمعرفة، واعتبرت هذا الامر من أفضل العبادات التي تقرب العبد من الخالق (عزوجل)، وصولاً الى الحقيقة والكمال المطلق.
فالتفكر بصورته المعنوية والتدبر بصورته المادية "عبادة صامتة" الهدف منها تنوير العقل، والبحث عن الحقيقية، وتحصيل الايمان والاطمئنان الروحي، وفتح آفاق العلم والمعرفة والحكمة امام الجميع حيث يقول الله تعالى: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، وقوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)، وقوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).
ان أسباب ترسخ الفراغ الفكري لدى الانسان تختلف من فرد الى فرد ومن مجتمع لأخر بحسب طبيعة قيمته الفكرية وعاداته الاجتماعية المؤثرة وايمانه وسلوكه الثقافي واستعداده النفسي، لكن يمكن القول ان هذا الفراغ يتولد بالمجمل لأسباب تتعلق بدوافع فكرية او اقتصادية او نفسية او تعليمية او أيدلوجية او تكنولوجية او اجتماعية، تؤثر على طبيعة الأفكار وقيمتها واهميتها ومدى قوة تأثيرها السالب على فطرة الانسان ومداركه العقلية.
اما الآثار التي يخلفها الفراغ الفكري لدى الانسان فهي كثيرة وخطيرة، لعل أبرزها ظاهرة "الاغتراب" في الفكر والتي تحول الفرد من فاعل مؤثر ضمن محيطة الى مفعول به، كما يعرفه الفيلسوف الألماني (هيغل): "هو قيام الفرد بنفي ذاته عن نفسه كفاعل مؤثر، فيتحول الى مفعول به، فيكون غريباً عن محيطه، ولا ينتهي هذا الاغتراب إلا حين يتماثل الانسان بنفسه مع موضوعه وأهدافه، ومن خلال صنع هوية ثابتة تخصه وحده".
كما ان "التطرف الفكري" هو أحد ارهاصات هذا الفراغ الذي يعاني منه الافراد داخل مجتمعاتهم او خارجها، ويؤدي الى التفكير بطريقة "دوغمائية" أحادية ترفض الرأي الآخر او مجرد النقاش، واعتبار الأفكار التي يؤمنوا بها هي الحقيقية المطلقة وما عداها مجرد وهم وسراب.
يعيش معظم من يعانون من هذا الفراغ أزمات فكرية صعبة ومتكررة نتيجة لجمود ميزانهم الفكري وعدم تقبلهم للحقائق او الأفكار، وخلو خزانتهم الفكرية من الرصيد المعرفي، وبالتالي يصبح عرضة للتأثر بالمعلومة السريعة والاعلام الموجه والمظاهر الشكلية دون الاهتمام بالجوهر وعناء البحث عن الحقيقية والتفكر والتأمل وغيرها من الممارسات الفكرية.
ان الإرهاب والتطرف الديني والأزمات النفسية والالحاد والتشكيك والظواهر الاجتماعية الشاذة وغيرها من الانتكاسات الفكرية والنفسية والاجتماعية، هي جزء من الازمات التي يخلفها "الفراغ الفكري" لدى الانسان او المجتمع، وهو بطبيعة الحال من امراض العصر التي تحتاج الى وقفة جادة للوقوف على المزيد من تفاصيلها واسبابها وطرق علاجها حتى لا نقع في المحظور.
ولعل البحث في طرق العلاج لهذا الامر يقود الى دراسة جملة من القيم والمؤسسات الحضارية القادرة على توفير القاعدة المناسبة لتحصين وترصين عقل الانسان ضد الاغتراب او الفراغ او الازمات او التطرف، وبالتالي توفير البيئة السليمة لتطور الانسان الفكري والحضاري بعيداً عن السلبية والانحراف.
ان أبرز هذه القيم والمؤسسات:
1. المؤسسات التربوية والتعليمية
2. المؤسسة الدينية (مسجد، حوزة علمية)
3. العائلة
4. الاخلاق والايمان
5. القراءة والكتاب
اضف تعليق