تعاني اقتصادات كبرى في الشرق الاوسط من متاعب اقتصادية تثير قلق السلطات والجمهور سواء بسواء، تركيا التي قطعت شوطا باهرا في البناء والتنمية وايران التي انتكس اقتصادها بفعل الحصار والعقوبات، ومصر التي تزداد مشكلاتها بسبب تدني الاستثمار وتضاؤل القطع الاجنبي وصعوبات دفع اقساط الديون، ودول اخرى ذات اقتصادات أصغر...
تعاني اقتصادات كبرى في الشرق الاوسط من متاعب اقتصادية تثير قلق السلطات والجمهور سواء بسواء، تركيا التي قطعت شوطا باهرا في البناء والتنمية وايران التي انتكس اقتصادها بفعل الحصار والعقوبات، ومصر التي تزداد مشكلاتها بسبب تدني الاستثمار وتضاؤل القطع الاجنبي وصعوبات دفع اقساط الديون، ودول اخرى ذات اقتصادات أصغر، كلها اصطفت على لائحة الدول التي تنتظر سياسات جريئة لمواجهة الازمة، طبعا لكل من هذه الدول مشكلتها الخاصة، سواء في تدهور قيمة العملة المحلية أو تراجع الاستثمار أو ارتفاع نسب التضخم وتزايد معدلات البطالة وهجرة العقول وامثال ذلك.
المشكلات الاقتصادية المزمنة في منطقتنا لها جذور مرتبطة بالمنظورات الاقتصادية، التي اعتمدتها الدول ذاتها منذ سنوات طويلة، هذه المنظورات غلب عليها الدوافع الفكرية أو ما يسمى النموذج الذاتي في بناء الاقتصاد، تركيا التي نجحت في تجربتها الاقتصادية بدأت تعاني من نتائج تدخل السياسيين - شخص الرئيس اردوغان- في ادارة الاقتصاد مخالفا المبادئ والقوانين التي ابتكرها الخبراء منذ امد طويل، في لجم التضخم وتحفيز النمو والمحافظة على سعر الصرف وتشجيع الاستثمار، وكل هذه المعادلات تشكل بمجموعها عاملا نفسيا وماديا يصنع الثقة بالاقتصاد أو يسلبها منه، ايران حاولت فصل العوامل السياسية الخارجية عن التأثير في اقتصادها ورفعت شعار (الاقتصاد المقاوم) محاولِة التغلب على الاثر النفسي للعقوبات على سعر الصرف، لكنها بالكاد تنجح في إبطاء سرعة انهيار العملة المحلية، وما زال السياسيون والخبراء والإعلاميون يخوضون سجالات حادة في كيفية حل الازمة المستفحلة، بين منظورين أحدهما يريد التعاطي مع قوانين الاقتصاد والاندماج بالسوق المالي العالمي، واخر يحبذ الانعزال والاعتماد على الذات وانتظار الحل باسلوب الاعتماد على امكانات الداخل.
اما حالة مصر التي عانت من ضعف اقتصادها منذ عشرات السنين، فان اسلوب الرئيس السيسي الذي جلب الاهتمام في السنوات الاولى من خطته، اصطدم بحقائق الواقع ولم تسعفه الطموحات الكبيرة والانفاق الواسع بقروض كبيرة في تأخير الاستحقاقات المتوقعة، وهي التاخر أو العجز عن سداد أقساط الدين وتراجع قيمة الجنيه وفرار المستثمرين وارتفاع نسبة التضخم.
القاسم المشترك في ازمات الدول الثلاث هو المنظور الاقتصادي، فهذا المنظور خضع جزئيا أو كليا للرغبة السياسية وليس لقوانين الاقتصاد، لمزاج الرئيس أو الهيئة الحاكمة وليس لاراء الخبراء المستقلين.
الرئيس التركي المعاد انتخابه أذعن أخيرا بأن أفكاره في خفض اسعار الفائدة لتحفيز النمو وزيادة إقراض المستثمرين المحليين واتخاذ اجراءات غير معهودة للحفاظ على سعر صرف الليرة لم تعد مجدية، وعليه أن يترك إدارة دفة الاقتصاد للخبراء، لذلك سارع إلى اعادة الخبير محمد شمشك ليسلمه ادارة المالية والاقتصاد، وعين (حفيظة غاية اركان) ذات الواحد والاربعين ربيعا، لترأس البنك المركزي في مسعى جديد لتدارك مشكلات الاقتصاد، الذي ينمو بسرعة ولكن تراجع قيمة الليرة أرهق الاقتصاد اليومي للناس، ايران ومصر مازلتا غير قادرتين على اتخاذ خطوات جريئة، كما تجرأ اردوغان بسبب التعقيد الكبير في العوامل الاقتصادية والسياسية.
نحن في العراق نحتاج إلى منظور اقتصادي يصوغه الخبراء ويتبعه وينفذه السياسيون وليس العكس، فقد تأخرنا كثيرا وتراكمت مشكلات بنيوية تحتاج إلى جرأة وصراحة وموقف حازم، ما يساعد على بناء هذه الرؤية الظروف الداخلية والخارجية الملائمة نسبيا وخطط رئيس الحكومة التي اعتمدت أولوية الاقتصاد، لكن المعوق لهذه الرؤية هو تنازع الاحزاب والزعامات الفاعلة والقوى السياسية التي استمرأت الاجراءات الشعبوية، منتهجة مبدأ توزيع الريع النفطي لغرض ارضاء الطبقات الفقيرة والجمهور الانتخابي، دونما رؤية علمية ولا حساسية تدرك الافق المستقبلي الملبد بغيوم التحديات الجسام.
يختلف الاقتصاديون في ما بينهم بشأن مناهج التنمية، بين داع إلى منهج النمو المتوازن في جميع القطاعات الانتاجية وبين منهج النمو غير المتوازن، لكل منهج من هذه المناهج محاسنه ومساؤه في الظروف المختلفة يعرفها اهل الاختصاص، لكن انتظار تطبيق منهج النمو المتوازن في الاقتصادات الهشة ضعيفة التمويل، يعيق تحقيق تقدم سريع في القطاعات الرائدة ذات المزايا، وميزة الاقتصاد العراقي أنه يمكن أن يحقق نموا سريعا في مجالات التشييد والصناعات التحويلية، بعدما اخفق في الاستفادة من مزية كونه اقتصاد طاقة ومنتجا كبيرا للنفط، فما زال العراق يستورد احتياجاته من موارد الطاقة (مشتقات نفطية + غاز) وتأخر كثيرا في صناعة البتروكيمياويات قياسا بما تنتجه السعودية وايران ومصر، ويفتقد إلى رؤية للتصنيع وما زالت مساهمة قطاع الصناعة في الناتج المحلي الاجمالي ضعيفة لاتزيد على 3 بالمئة، يتعين في مثل الاحوال التوجه إلى الاستثمار في القطاعات القادرة على تشكيل رأسمال مولد قادر على توفير فرص عمل وتحقيق مردود، يمكن أن يحرك باقي القطاعات، العراق يهمل قطاع التعدين المهم (الفوسفات، الكبريت، الرمال، الحجر) ويفرط في تطوير صناعة السياحة والفندقة.
إنه يستقبل ملايين الزائرين ولا يعرف ادارة قطاع السياحة الدينية، كما تفعل السعودية لزيادة فرص التشغيل وتحقيق عوائد مالية، وتتوالى الأمثلة على ضعف (التفكير الاقتصادي) وتنامي عوائق الانطلاق نحو تنمية سريعة، تنقذ البلاد من ترهل القطاع العام وتخفف عن المالية العامة كلف التشغيل البيروقراطي غير المنتج، بما يسبب هدرا في الموارد ومشكلات اجتماعية وسياسية لا حصر لها، كما هو دائر الآن في الجدل السنوي على فقرات الموازنة العامة التي بالكاد ترى النور، وهي في أحسن احوالها ما زالت موازنة بنود، ولم تتحقق موازنة البرامج كما تعهد بذلك رئيس الوزراء الأسبق عادل عبدالمهدي عام 2018، العراق يحتاج إلى منظور اقتصادي يبعد السياسات الاقتصادية عن لعبة المصالح السياسية والانتخابية والحزبية، منظور يضع أهدافا وخططا للعشرين عاما القادمة، يوم يبلغ عديد السكان 70 مليونا ويفقد النفط أهميته، ويأخذ بالحسبان أن البلاد لا تصدر مواد مصنعة، وتستهلك ما ينتجه ويصنعه الآخرون بشراهة ورفاهية الثري الكسول.
اضف تعليق