امام العراقيين عمل كبير لتصحيح هيكل اقتصاد بلادهم قبل أن تداهمهم الازمات والمشكلات، بسبب سوء الادارة والتخطيط وغياب الرؤى العلمية وتضييع الفرص، العامل المحوري الضروري الذي نحتاجه الآن هو التحفيز القيمي وربط العمل بالوازع الاخلاقي والديني، لتجاوز الفساد والركود واقتصاد الندرة...
من الظواهر التي يلمسها المراقب للاجتماع العراقي هذه الايام، تحول الجدل من السياسة إلى الاقتصاد، وهي حالة قد تبدو طارئة، نظرا لغلبة المزاج السياسي والديني على تفكير العامة فضلا عن الخاصة، يشير هذا التحول في المزاج الاجتماعي إلى نمط جديد من الاهتمامات وتبدل الاولويات، كلما ضعفت الثقة بصورة المستقبل وغلب التشاؤم على توقعات الخبراء والمحللين، الحقيقة ان الاقتصاد وما يرتبط به من قضايا (سعر الصرف، التضخم، البطالة، الكهرباء، السكن) لم تغب عن الاهتمامات أساسا، حتى يمكن الجزم بوجود تحول جوهري في المزاج اليومي.
بيد أن قضاياه ظلت تندرج تحت عناوين السياسة والادارة، وما كان الاقتصاد بطبيعة الحال بعيدا عن السياسة يوما، فادارة الاقتصاد في بلادنا اقتصرت على من بيده القرار السياسي، وهي شأن السياسيين الدائم! حتى في اشد حالات التدهور الاقتصادي، فالسياسي ظل يهيمن على تخطيط السياسات الاقتصادية، ويستعين ببعض اهل (الخبرة) من بيروقراطيي الدولة للترويج لسياساته، التي يغلب عليها النوازع السلطوية وربما الدوافع الايديولوجية والشعارات الشعبوية.
منذ نوفمبر /تشرين الثاني من العام الماضي (2022) هدأت المجادلات السياسية كثيرا، ترقبا لما ستفعله الحكومة الجديدة التي جعلت برنامجها الحكومي متمركزا على مفهوم الخدمة، خدمة الامة، وانتقل النقاش العام إلى الجوانب الاقتصادية (سرقة الامانات الضريبية أولا ثم قيمة الدينار، الموازنة، فرص العمل، سلم الرواتب، الضمان الصحي والاجتماعي..) لتبلغ ذروتها اخيرا مع تأخر اقرار الموازنة العامة وتصاعد الاختلاف مجددا مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، بشأن بعض بنود الموازنة المتعلقة باقليم كردستان، وارتفعت حرارة الجدل مع بدء الحكومة الترويج لمشروعها (طريق التنمية)، ومزاياه التنموية والاقتصادية، وأخيرا مع صدور البيان المتشائم من بعثة صندوق النقد الدولي عن المخاطر، التي تحدق باقتصاد العراق في السنوات القليلة القادمة، وهو بيان جاء في وقت يعيش العراق بوادر انتعاش اقتصادي وتنموي.
حدد خبراء السياسة وظائف الدولة الرئيسة باربعة، الاولى والثانية منها متعلقة بالاقتصاد، (الاستخراج والانتاج) وتوزيع الثروة، وجمهور الدولة في مثل انظمتنا السياسية ينتظر من قادته القيام بأداء هذه الوظائف نيابة عنه على اكمل وجه، ولا تقتصر رقابة الجمهور على الاداء والكفاءة والعقلانية في مجتمعات كمجتمعاتنا الاسلامية، بل إن المعايير الدينية والموازين الاخلاقية، هي سلاحه الفعال في الحكم على اداء السلطات الحاكمة، فالعدالة الاجتماعية هي القيمة العليا التي تتحكم برضا أو سخط الجمهور على الحاكم.
انتظر الجمهور العراقي من قادته إخراجه من حالة (الحرمان النسبي) طيلة الاعوام العشرين المنصرمة، رغم التحسن النسبي في مستويات المعيشة والاستهلاك، ومعياره الحاسم في الحكم على نجاح وفشل السلطات، كان المنظور الديني (صورة الحاكم الاسلامي العادل) في كرمه وزهده والتيسير على العامة (الانجاز)، أي أن السلوك السياسي والاقتصادي خضع للمنظور الديني، ولكن بطريقة مبتسرة عمودية الطابع، متأسسة على علاقة المحكوم بالحاكم، حيث ينتظر الجمهور العطايا والهدايا والمكرمات!، وهي كما يراها حقوقه وحصته من بيت المال! وغاب عن الوعي العام مفاهيم الانتاج والاتقان والادخار والسعي إلى الانجاز والتنافس في تحسين الاحوال العامة وتطوير الاقتصاد والريادة في الاعمال والمساهمة في الكلف العامة عبر نظام الضرائب، وبينما يحفل المنظور الديني والاجتماعي بعناوين كبيرة مثل الواجب والضرورة والكفاية والايثار والقناعة والعمل الصالح، فإن الجدل اليومي الاستهلاكي لا يؤدي إلى تعميم مفاهيم تقويمية للسلوك تكون دافعا لتنمية الاقتصاد، بدءا من اقتصاديات الأفراد إلى الاقتصاد الكلي، رغم الدوافع الذاتية الاساسية الرامية إلى الرفاه المادي عبر مراكمة الثروة وتوسيع الحيازات، فقد تجد الكثيرين يميلون إلى الاكتناز عبر الطريق السهل، امتطاء السياسة والانتظام في طابور المنتفعين من مزاولتها، واللهاث على مكاسبها البيروقراطية والمادية والوجاهتية.
لقد جعلت الماركسية الاقتصاد العامل الأوحد في البناء التحتاني للمجتمعات، ووفق رؤيتها توارى الدين والثقافة إلى ظل للاقتصاد، ثم جاء ماكس فيبر ( 1864 - 1920) ليعكس هذا المنظور، معتبرا الدين (المسيحي) والاخلاق البروتستانية، التي انتجها محورا باعثا للروح الراسمالية في الغرب، بتشجيعها للعمل والكسب الدنيوي والادخار، نحن في العراق أضعنا الطريقين، فلا الماركسية ومنظوراتها خدمت المجتمع وتطوره اللا رأسمالي، ولا المنظور الديني فُعل بطريقة تساعد على نهضة البلاد والاقتصاد بدوافع تعبدية واخلاقية وقيمية، وانشغل الناس ظلا لقادتهم يتصارعون على السلطة والثروة بعناوين دينية واخرى سياسية، دون ان تتوافر لديهم رؤية للطريق القويم إلى تنمية البلاد وتحسين اقتصادها، بل لم يكن للاقتصاد هوية محددة، ولا هو أولوية في حسابات السياسيين، الا بمقدار ما يضمن من علاقات زبائنية تدعم الانتفاع من السلطة.
تركيز الاهتمام بالشأن الاقتصادي لدى الجمهور مؤشر ايجابي على دوران التفكير اليومي، باتجاه المجدي والنافع، بدل الجدل العقيم في شجون السياسة وقضاياها المملة، لقد حصلت ازاحة (مؤقتة) لمركزية السياسة والدين في الجدل اليومي، إلى مركزية المعاش وشؤونه وتحدياته الكثيرة، وهي المحرك القوي المضمر للجدل السياسي والديني الذي يسود الاوساط الشعبية عادة.
ماهو جوهري في الموضوع هو تحويل هذا الاهتمام إلى تصور عام ينهمك فيه الافراد والمتخصصون والنخب، لجعل التنمية أولوية يسهم فيها كل مواطن باعتبارها واجبا اخلاقيا ودينيا ومصلحة دنيوية، فيغدو الامر كله محفزا لتوظيف الرساميل وتسهيل الاعمال وزيادة الانتاج وضبط الاستهلاك وادخار الاموال لتعزيز مستقبل الاجيال، الأحرى في هذا التوجه هو تحرير العقول من الاعتماد على الدولة كرب عمل كبير وتقوية مؤسسات المجتمع (القطاع الخاص )ليعمل بنزاهة وحرص ومسؤولية، وتوجيه الموازنات العامة نحو النشاط الانتاجي والخدمي للخروج من اقتصاديات الريع والكسل العام إلى رحاب المبادرات والابتكار المندفع بالحرص على منع الصدمات، وتجنب الازمات الحادة والمطبات والاختلالات التي تصاحب عمل الاقتصادات الريعية غير المنتجة. امام العراقيين عمل كبير لتصحيح هيكل اقتصاد بلادهم قبل أن تداهمهم الازمات والمشكلات، بسبب سوء الادارة والتخطيط وغياب الرؤى العلمية وتضييع الفرص، العامل المحوري الضروري الذي نحتاجه الآن هو التحفيز القيمي وربط العمل بالوازع الاخلاقي والديني، لتجاوز الفساد والركود واقتصاد الندرة.
اضف تعليق