الطريقة المهذبة في الاستفادة من الطاقات تجعل الفرد والجماعة، ليس فقط ذوي قدرات ذاتية تخدم واقعهم الخاص، وإنما يتوسع التأثير ليشمل الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي العام، وتحديداً التأثير على نظام الحكم ونمط العلاقة بين الحاكم والمواطن، فاذا تمكن الفرد من توظيف طاقاته بشكل لا يلحق الضرر بنفسه وبالآخرين...
"للكسلان ثلاث علامات؛ يتوانى حتى يُفرّط، ويُفرّط حتى يضيّع، ويضيّع حتى يأثم".
أمير المؤمنين، عليه السلام
أودع الله –تعالى- في نفس كل انسان نوعاً من المواهب والطاقات والقدرات بشكل عادل يبعث على الاطمئنان والشكر، و ايضاً هي حجة بالغة عليه لئلا يأتي يوماً يتذرع فيه بالعجز عن هذا العمل او ذاك، حتى ذوي الاحتياجات الخاصة، نلاحظهم يبهرون العالم بإنجازاتهم العلمية والمعرفية، بل و اعمالهم اليدوية كسباً للمال الحلال.
وبما أن الانسان يتميز بالإرادة والتفكير فان بوسعه توجيه ما لديه في اتجاهات مختلفة؛ منها ما يتناغم مع رغباته النفسية المختلفة، ومنها ما يتوافق مع مصالح الآخرين رجاء تحقيق بعض المكاسب الشخصية، وبين هذا وذاك، تواجه عمليات الاستفادة من الطاقات الكامنة سلسلة من التحديات في معظمها تدفع باتجاهات غير محمودة العواقب، رغم بعض ما تقدمه من المُتعة السريعة، تشبع فيه نزوات ورغبات معنية ثم لا تلبث ان تزول وتترك آثارها السيئة.
التهذيب والتقويم لاستفادة فُضلى
لا اعتقد بالحاجة الى تحفيز الانسان لأن "يفجّر" طاقاته، او ان يكتشفها بين أعماق ذاته وشخصيته، فهو منذ وُجد سجّل للتاريخ البشري منجزاته وأعماله الباهرة انطلاقاً من قاعدة "الحاجة أم الاختراع"، وكان لمسيرة الزمان وتطور العقل البشري بالتجارب والتأمل والحدس وسائر النشاطات الذهنية، دوراً بوضعه على سكة التطور المستمر في وسائل الحياة، وايضاً؛ في التوصل لحقائق عملية عظيمة نراها اليوم بكل فخر وقد بلغ عمرها آلاف السنين، بما يعني أن الانسان لن يكون دائماً بحاجة الى معرفة أنه ذو طاقات وقدرات، فمن يجهل هذه الحقيقة الفطرية ربما نعده من القاصرين عقلياً، حتى الطفل الصغير يعرف امكانياته منذ الساعات الاولى من الولادة، ومن أين يتغذّى لسد جوعه، وكيف يخبر المحيطين بقضاء حاجته بالبكاء.
إنما القضية في البوصلة الموجهة لهذه الطاقات، والى أين يجب ان تتحرك؟
لذا نرى الاسلام من خلال الرافدين العظيمين؛ القرآن الكريم، والعترة الطاهرة، يصوغ لنا برنامجاً متكاملاً لتحقيق الافضل، يتضمن بنود اساس منها؛ التوازن والاعتدال في استخدام هذه الطاقات، حتى لا يكون ثمة إفراط أو تفريط، وايضاً؛ ايجاد صلة الوصل بين المنجز في هذه الدنيا وبين قوانين الحساب يوم القيامة ليكون في معظمها –حسب القدرة والاستطاعة- متطابقة مع مرضاة الخالق، ومن ثمّ اكتساب الأجر والثواب على الافعال الحسنة والمنجزات التي تسببت في نشر الخير ودافعت عن الحق والفضيلة.
والأمر الآخر، و المهم ايضاً؛ تهذيب صاحب الطاقات والقدرات اخلاقياً ونفسياً لتجنب الخطأ والانحراف ثم الخسران، فجاءت الروايات عن أئمة أهل البيت، عليهم السلام، تؤكد على أهمية سلامة القلب قبل التفكير بالاستفادة من الطاقة العلمية، او الطاقة المالية، أو الطاقة الذهنية، وألا تشوب عملية الاستفادة هذه نزغات من الحسد، او الكِبر، او الغرور، وايضاً؛ نزغات لها شضايا على الواقع الاجتماعي مثل؛ الظلم، والبغي، والنفاق، والازدواجية.
حبس الطاقات بطريقة سياسية!
الطريقة المهذبة في الاستفادة من الطاقات تجعل الفرد والجماعة، ليس فقط ذوي قدرات ذاتية تخدم واقعهم الخاص، وإنما يتوسع التأثير ليشمل الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي العام، وتحديداً التأثير على نظام الحكم ونمط العلاقة بين الحاكم والمواطن، فاذا تمكن الفرد من توظيف طاقاته بشكل لا يلحق الضرر بنفسه وبالآخرين، مما يمكنه من التأثير على السلوك العام وطرائق التفكير في المجتمع والامة، فانه سيكون مؤثراً على اصحاب القرار السياسي، وعلى طرائق تفكيرهم ومناهجهم في العمل، لاسيما اذا عرفنا أنهم (الساسة) أحوج ما يكونوا لتلك الطاقات والقدرات الكامنة في افراد المجتمع، فعندما تكون مهذبة وذات ماركة معتبرة –إن جاز التعبير- يكون من الصعب جداً التعامل معها كأداة طيّعة لتنفيذ ما يأمر به الزعيم او الوزير او حتى النائب المنتخب في البرلمان، بل يجدون أمامهم الخطوط الحمراء، والمعايير، والقيم المدعومة بتلكم الطاقات والقدرات.
وهذا ما دعا اليه الأئمة الاطهار في منظومتهم المعرفية بان تكون واضحة المعالم ومتكاملة لمن يريد، دون زيادة او نقصان، فقد جاء عن الإمام الصادق، عليه السلام: "أبى الله أن يجري الاشياء إلا بأسباب، فجعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً، وجعل لكل شرحٍ علماً، وجعل لكل علم باباً ناطقاً، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، ذاك رسول الله ونحن".
هذه البوصلة، قطعاً ويقيناً لا تتوافق مع رؤى الساسة والحكام المتجهة نحو المصلحة والمنفعة بكل ثمن، ولذا "سعى الظالمون من الحكام واتباعهم، منذ السقيفة والحكام الامويين والعباسيين، لاطفاء هذا النور الرباني، فمنعوا الناس من الأخذ بعلوم أهل البيت، عليهم السلام، ومنعوا التاريخ من تدوين كل ما صدر عنهم من كلمات وسيرة نورانية، وهذا ظلم كبير في حق جميع الاجيال، وظلم بشع على البشرية بأجمعها". (الطموح في حياة الانسان والمجتمع- المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه).
وحتى يكون الانسان هو المتحكم الأول بطاقاته وقدراته، يتعين عليه الاستضاءة بالعلوم والمعارف من مصادرها الأصيلة بما يمكنه من صقل تلك الطاقات والمواهب، ومن ثمّ توظيفها للبناء والعمران، ليس فقط في المنشآت والمصانع والمعامل والحقول، وانما في بناء الانسان والمجتمع.
اضف تعليق