رغم أن كثيرين من المراقبين يتوقعون فوز أردوغان، لكن في السياسة لا يمكن القطع برأي، فالمواقف قابلة للتبدل والتغير بتأثيرات داخلية وخارجية.. وما يهمنا حقا عربيا وعراقيا، هو ملاحظة نسبة المشاركة العالية، وكيفية إجراء الإنتخابات وسرعة إعلان نتائجها.. ويسبق ذلك كله تبدل تركيا من بلد يقوده العسكر وقسوتهم...
إختلفت الإنتخابات التركية التي جرت قبل بضعة أيام عن سابقاتها كثيرا، لعوامل وأسباب عديدة، بعضها محلي وأكثرها إقليمي ودولي..
تركيا ذلك البلد الذي يتميز بأنه كان يوما إمبراطورية كبيرة، تلبس ثوب "خلافة إسلامية" ويحكم دولا عديدة وكبيرة، وبقي أرثه هذا ملاصقا له، مهما عمل حكامه مدنيين وعسكر على إزالته أو التخفيف منه طبيعيا أو قسرا وترهيبا، فظلت هوية شعبه مختلطة بين من يحن لدولة إسلامية يريدها متمدنة، وآخر يريدها علمانية كاملة بعيدة عن الدين، كبعد الأرض عن النجوم..
من الواضح أن الرئيس الحالي أردوغان، يمسك بقوة بمقاليد السلطة بشكل يكاد يكون " إنفراديا" بعد أن نجح في تعديل الدستور ليكون الحكم رئاسيا، بعد محاولة فاشلة للعسكر للإنقلاب على النظام نجح الشعب في إفشالها، وليستغلها الرئيس وينفذ حملة تطهير واسعة لمختلف مؤسسات الدولة شملت حتى العسكر، فأفقدتهم كثيرا من قوتهم وتأثيرهم بل وتحكمهم بالساحة التركية، بعد ان كان أي رئيس لا يسير بركاب المؤسسة العسكرية، يسجن بل ويعدم بكل برود!
رقميا شهدت الإنتخابات التركية الأخيرة، مشاركة قاربت بلوغ 90% من أصل (46 مليونا) ممن يحق لهم التصويت، وهذا رقم يكاد لا يحدث إلا نادرا في البلدان الديمقراطية.. والملفت أكثر أن نسبة المشاركة تلك كانت لأتراك الداخل، بعد حملة إنتخابية شهدت إستقطابا وإنقساما واضحا، بين مرشحين أحدهما يقدم نفسه إسلاميا يدعي الحداثة وتحالف مع القوميين، وآخر علمانيا مدعوما بشكل غير معلن من الاحزاب الكردية التي يقبع قادتها في السجون، وغير مرخص لها بالعمل سياسيا..
دوليا لم تخفي الدول الغربية، رغبتها برحيل أردوغان ومجيء خصمه لسدة الحكم، فهو "أسهل" في التعامل وأكثر قربا "وطاعة" للمواقف الغربية، خصوصا بعد الحرب الأوكرانية الأخيرة مع روسيا، وموقفه المختلف عن الغرب بما يخص العقوبات ضد روسيا، وما يقال عن شراءه النفط الروسي وعلاقته الإقتصادية القوية معها..
رغم أن حلف الناتو يتعامل مع تركيا واقعيا، كدولة عضو فيه وتملك قدرة عسكرية كبيرة ومؤثرة إقليميا، وهو يحتاجها وربما يضطره هذا لغض النظر عن بعض مواقفها "الصغيرة" المختلفة عنه هنا وهناك.. لكن ليس لدرجة تهدد مصالح وسياسات أوربا في القضايا الهامة والمصيرية..
إقليما تركيا لديها عدد من الملفات الشائكة مع جيرانها، وخصوصا بعد سعي "أردوغان" لإستعادة مجد الدولة التركية في الاٌقل إقليما أو كما يسوق لها "العثمانية الجديدة".. ورغم واقعية إيران في كل ملفاتها، وتعاملها من يمتلك دفة الحكم بغض النظر عن توجهاته، لكنها وبشكل غير معلن قد ترغب ببقاء أردوغان لفترة حكم جديدة.. وبما يخص سوريا وهي قد تعد ملفا "ضمنيا" في إطار العلاقة التركية الإيرانية، إلا بما يخص الموقف من اللاجئين السوريين، حيث يركز أردوغان على الجانب الإنساني في الموضوع خلال حملته الإنتخابية، ويدعي عدم إعادتهم قسرا، فيما يركز منافسة كمال أوغلو، على موقف أكثر صرامة ويعد بإعادتهم بشكل أسرع، رغم أن الأول بدأ فتح قنوات التواصل مع الرئيس السوري، بشكل معلن وإن كان على إستحياء..
عراقيا لازالت القوات التركية تستقر في شماله، بحجة محاربة أفراد المعارضة الكردية "PKK" المتواجدين هناك، وتنفذ ضربات متواصلة لأفراده ومقراته، مما يزعج الحكومة العراقية كثيرا، لكنها وكما يبدو تسكت على مضض، لقوة أوراق الجانب التركي المتمثلة بملف المياه، حيث تتحكم تركيا بنسبة (80%) من موارد المياه العراقية، وهي قضية خطيرة وشائكة ولا يسهل حلها، مع ما يشهده العالم من تحولات مناخية سيئة، رغم إمتلاكه ملف التبادل التجاري كورقة، يبدوا ان حكومته لم تحسن إستثمارها لحد الان.. ورغم ذلك فقد يميل الساسة العراقيون، وخصوصا "السنة" منهم لتمني فوز أردوغان، لما لعبه من دور في توحيد صفوفهم في تحالف كبير، نجح بأن يفرض نفسه في الساحة العراقية، بزعامة السيد الحلبوسي، بعد تراجع الدور الخليجي في الساحة العراقية السنية..
خليجيا لم يكن هناك موقف يمكن ملاحظته تركيا، خصوصا بعد التهدئة التي شهدتها العلاقات السعودية التركية، بعد حادثة مقتل "جمال خاشقجي" وما رافقتها من ردود أفعال عالمية وإقليمية، كادت أن تطيح بتلك العلاقة بشكل مدمر، خصوصا مع إعتماد تركيا على السياحة الخليجية كمصدر مهم للدخل، وتأثير السعودية في الموقف الخليجي ككل..
داخليا يسجل لأردوغان وتركيا عموما، أنه تقبل أن تكون هناك دورة ثانية، رغم انه كاد أن يحقق نسبة (50%) المطلوبة للفوز بفارق أعشار قليلة، ربما لعلمه أنه تحت المراقبة والضغوط الغربية، وأن طرفي المنافسة تقبلا النتائج التي ظهرت نتائجها خلال أقل من (24) ساعة.. ولم يشكك أحد بنزاهتها أو حيادية من أشرف على إجرائها، على الأقل لحد الآن..
رغم أن كثيرين من المراقبين يتوقعون فوز أردوغان، لكن في السياسة لا يمكن القطع برأي، فالمواقف قابلة للتبدل والتغير بتأثيرات داخلية وخارجية.. وما يهمنا حقا عربيا وعراقيا، هو ملاحظة نسبة المشاركة العالية، وكيفية إجراء الإنتخابات وسرعة إعلان نتائجها.. ويسبق ذلك كله تبدل تركيا من بلد يقوده العسكر وقسوتهم، لبلد ديمقراطي يخوض قادته الإنتخابات بكل ثقة خلال أربعين سنة..
اضف تعليق