العربُ من الشعوب التي حاول بعض رجالها انتهاج طرق خاصة بهم في محاربة الفقر، وكل حسب مفهومه، ولاسيما في مجتمع يؤمن بالقوة، ويعاني من قلة الموارد الطبيعية، لذا كانت علميات السلب والنهب على القوافل ومضارب القبائل تجري على قدم وساق، حتى ظهرت طائفة من الفتاك العرب عرفت بالصعاليك...
الفقر داءٌ لا يرحم الإنسان؛ وأغلبُ البشر منذ القدم هزتهم ازلته، ونالوا حقهم من كرمهِ حتى التخمة. برغم أن الأنبياء والمصلحين حاولوا محاربة هذا الفاتك كل ما أتوا من القوة، فإنه حتى يومنا هذا نجده يسرح ويمرح، يحرك الدنيا كيفما يشاء مقسماً العالم إلى مناطق غنية وأخرى فقيرة.
العربُ من الشعوب التي حاول بعض رجالها انتهاج طرق خاصة بهم في محاربة الفقر، وكل حسب مفهومه، ولاسيما في مجتمع يؤمن بالقوة، ويعاني من قلة الموارد الطبيعية، لذا كانت علميات السلب والنهب على القوافل ومضارب القبائل تجري على قدم وساق، حتى ظهرت طائفة من الفتاك العرب عرفت بالصعاليك، تسعى إلى تحقيق مفهوم العدالة الاجتماعية بين الأفراد، واستمر الحال حتى ظهور الإسلام.
تعدُ (الحْوافة) إلى حد قريب نوعاً من الرجولة في الريف العراقي، إيماناً من الفلاحين أن الأشياء لا يؤخذ إلا بقوة السلاح، والذي لا يتقن هذا النوع من الفن قد تلصق به صفة الجبن، حتى أن بعضهم لا يزوجونه من بناتهم، لأن ناعم اليد لا مكان له في مجتمع خشن يتصارع فيه الأقوياء للحصول على لقمة العيش. الريف العراقي مليء بقصص (الحوّافين) وأساليبهم في المباغتة وخفة الحركة والفراسة وتحليل الأمور وقراءة الأفكار.
يبقى (عذافة الحّواف) من الشخصيات التي نُسجت حولها أساطير خارقة لدرجة المبالغة. ربما أسهَم نفسه في صناعة هذه الهالة من خلال سرده لحكاياته ومغامراته الشيقة، فهو يعدُ من أمهر (الحوّافين) الذين عرفهم التاريخ المعاصر –حسب ما يقول– فهو صاحب نظرية خاصة في تعريف مفهوم السرقة، فيعدها نوعاً من الشطارة التي يتميز بها عن بقية أقرانه من (الحوّافين).
(عذافة) ليس معسراٌ، بل انه ورث عن أبيه ثروة حيوانية تجعله في غنىٍ عن المخاطرة بحياته في سبيل الحصول على غنيمة ما، ولكنه يريد أن يؤسس مفهوماً للحْوافة يعود بالعرب إلى ايام جاهليتها، حيث كانت تتفاخر على بعضها بغاراتها وسلبها للقوافل بحد السيف، وربما يريد استنساخ تجربة جدته أمير الصعاليك عروة بن الورد.
(الحّواف) لابد أن يتميز بصفات عن أقرانه، لاسيما سرعة البديهة وخفة الحركة والشجاعة الخارقة وكيفية التخلص من المأزق، فضلاً على قوة البصر، لان اغلب عمليات (الحوافة) كانت تُقام في الليل، إلاّ أن (عذافة) عكس هذا الشرط، فهو مصاب بالعشو الليلي، إلاّ انه مع كل هذا العيب فإنه لا يخطئ في معظم غزواته الليلة والنهارية. لا يمكن أن نطلق على (عذافة) مصطلح لص، لأنه من النادر أن يحتفظ لنفسه بما سرق، بل أن لديه يد (فلتة) يجود بما يملك من المال والحلال. ربما يكون هذا الرجل أقرب إلى مفهوم الصعلوك منهُ إلى اللص، فهو يمارس هذا الفعل من باب الهواية وليس الاحتراف، وأحياناً يعدهُ نوعاً من التحدي في مجتمع يحترم (الحواف).
خلقَ (عذافة الحوّاف) لنفسهِ عالماً أسطورياً فريداً من نوعه. قد يكون لقدرته على سرد الحكايات وإضافة نوع من التشويق الممتع إليها، ما تجعل المقابل يصاب بالدهشة والانبهار لمثل هذه الخوارق الملحمية. وان من يقوم بهذه المغامرات لابدّ أن يكون ذا قدرات جسمانية كي يصدقها السامع. ولكن (عدافة) بجسمه النحيل، وعينيه العمشاوين، وحاجبيه الكثيفين، وشاربه المفتول وشعره المجعد كأنهُ وبر القنفذ، لا يستطيع أن يحقق له بعض طموحاته البطولية.
مع هذا عوّض كل ما سبق بصفات حسية محكمة، فهو حذر كالغراب، وشجاع كالأسد، مقدام كالنسر على طريدته. ربما يكون شعره الكثيف وصوته الأجش هما ما يبعث الرعب في نفس المقابل حيث يستخدم هذه الخاصية في إفزاع الخصم، ولاسيما عندما يُفاجأ أحدهم ليلاً بهذه الهيئة كأنها (الطنطل) أو (السعلوة).
يواجه (عذافة الحوّاف) بهذه الصفات الجسمانية سخرة واستهزاء الآخرين الذين سمعوا عنه ولم يشاهدوه جرياً على عادة العرب في هذا الموضوع "تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه"، فيحاول تعويض هذا النقص من خلال مشية خاصة يعرفها الجميع، من خلال إطلاق العنان ليديه كأنه ديك يتهيأ للصياح متحزماً بخنجره الذي لا يفارقه مطلقاً والذي استخدمه في اغلب معاركه، وقد زينه برسوم متفردة صنعته أنامل أمهر صُنّاع العمارة. ربما يكون هذا الحوّاف المتمرس يؤمن أن الخنجر سلاح يفي بالغرض بعيداً عن (الورور) و(التفكة)، حيث يعدهما من الأسلحة التي تريق الدماء في أي لحظة غضب أو تهور.
قد يسأل أحدهم كيف يستطيع رجل قصير القامة وناحل الجسم من التفوق على خصوم أكبر منه حجماً؟ حيث أنّ اغلب المعارك غير المتكافئة يكون مصيرها الفشل والخسارة، وتكون المصارعة كمصارع من الوزن الثقيل مع آخر من وزن الذبابة. ولكن (عذافة) لا يقحم نفسه في معركة خاسرة، بل يقرأ الإحداثيات ويحاول ان يرسم خطة تجعله في منتصراً. ولعل سرعة الحركة ومبالغة الخصم وعدم التردد تصب في صالحه، ولاسيما عندما يرى علامات الاحتقار والاستخفاف في عيون الخصم، فيحاول استثمار هذه النقطة لصالحه، ومن دون تردد ينقض على خصمه كأنه الليث الجسور، عندها يذهل المقابل وتنهار قواه، ويتحول العصفور الصغير إلى نسر جارح!
ذات مرة دخل مع أحد الأشخاص الميسورين في مراهنة في دخول (چلعته) المحصنة، استطاع بكل أريحية دخول عرين هذا الشخص وأخذ خنجره الذي وضعه تحت رأسه، وعندما رأى المراهن أن سلاحه في يد (عذافة) أقرّ بعبقريته وليجود عليه بفرس أصيلة احتراماً وقديراً لشجاعته التي استطاع بها تخطي الحواجز وعيون العسس. للعمر حوبة كما يقال؛ فقد كبُر (عذافة ) ولمْ يستطع ممارسة هوايته المفضلة في الكر والفر، فقرر الاعتزال قبل أن يحال إلى التقاعد مرغماً، ليعيش في بغداد مكتفياً بسرد حكاياته لجيرانه وأصدقائه.
ويُحكى أن احد اللصوص من قليلي البخت داهم بيت (عذافة) الجديد، حيث استغل وجوده وحيداً في هذا اليوم. ومن خلال خبرته المتراكمة وفراسته الماضية التي امتدت لأكثر من نصف قرن، احس بحركة غريبة في البيت، فعرفَ انه لص غشيم أراد أن يحوف بيت (عذافة الحواف) -وهي من مفارقات الدهر-! كمن الشيخ الأعمش للص، وبكل خفة وأريحية ألقى القبض على اللص متلبساً بالجرم المشهود، لينتزع منه سلاحه ويربطه بغترته، مخاطباً اللص الأغبر الذي لم يجد سوى بيت (عذافة) ليسرقه وفي وضح النهار "حرامي مخربط، واثول، إذا انته ما تعرف ليش تحوف؟!" ثم بصق في وجه اللص الاسير الذي اخذ يبكي ويبرر قيامه بهذا العمل العوز المالي". انكسر خاطر شيخ (عذافة) على اللص برغم بما امتاز به من شكيمة ورباطة جأش، فانه صاحب قلب حنون ودمعة تتساقط على ابسط الأشياء، ليطلق سراحه بعد أن قدم له وجبة عشاء دسمة مع حديث سمر استمر طوال الليل، محدثاً أياهُ عن مغامراته، وكيف كانت (الحوافة) مرجلة وشجاعة قبل ان تكون لصوصية.
من طرائف القدر أن يدخل أحد أحفاده سلك الشرطة، وكان الحفيد يسرد لجده عمليات إلقاء القبض على اللصوص والمجرمين، وكيف يتم انتزاع الاعترافات بطرق مختلفة تصل إلى التعمق بالتحقيق وغيرها، فكان يرد عليه (عذافة) "بويه، لوچنت مكانك، اشم ريحة الحرامي من بعد 100 كليو، واعرفه من نظرة وحدة ". فيمازحه الحفيد الضابط "جدو، بس انته ماتشوف" عندما يضحك (عذافة) من قلبه، ويقول "الشوف بالگلب مو بالعين". ثم يبدأ بسرد حكاية من أيام زمان عن عالم الحوّافين ومغامراته العديدة، عن حواف اسمه (عذافة) دوّخ المنطقة، وقد يتذكره بعض اهالي المنطقة اليوم، ولكنه يملك مزاجاً خاصاً وتحليلاً دقيقاُ يقترب من شارلوك هولمز.
- الحّواف: اللقب الذي يُطلق على اللص في الريف.
- الچلعة: القلعة.
- غشيم: قليلة الخبرة.
- يد فلتة: كريم.
اضف تعليق