حين أعود بالذاكرة إلى أيام الدراسة الابتدائية، أتوقف عند لمسات تربوية اكتشفنا أهميتها الكبيرة لاحقا، أو بعد أن تقدم بنا العمر والوعي.. ففي مدرستنا الريفية المبنية من القصب، كحال بيوت القرية المحاذية للأهوار في محافظة ميسان، كانت تقام فعاليات ثقافية تربوية تسبق بدء الدروس اليومية...

حين أعود بالذاكرة إلى أيام الدراسة الابتدائية، أتوقف عند لمسات تربوية اكتشفنا أهميتها الكبيرة لاحقا، أو بعد أن تقدم بنا العمر والوعي.. ففي مدرستنا الريفية المبنية من القصب، كحال بيوت القرية المحاذية للأهوار في محافظة ميسان، كانت تقام فعاليات ثقافية تربوية تسبق بدء الدروس اليومية.

لقد كان الاصطفاف الصباحي فعالية خصبة، ففضلا عن التفتيش اليومي للتأكيد على نظافة التلاميذ، تشهد الساحة إلقاء الأناشيد الفردية والجماعية وتقام باستمرار الفعاليات المدرسية المختلفة للصفوف المتقدمة، وقد كنت أحد أبطال مسرحية أتذكر عنوانها الآن، (الطفل والعصفور)! مستلة من أحد الكتب المدرسية.. وهذه الفعاليات التي لم يشهدها التلاميذ وحدهم، بل بعض أهالي القرية ممن تثير فضولهم هذه النشاطات الفنية والجمالية، التي اقتحمت حياة القرى النائية المعزولة نتيجة اتساع مساحة التعليم الريفي منذ ستينيات القرن الماضي، مثّلت أسس الثقافة الوطنية الواعية التي كان يتلقاها الصغار ويتشربونها مع المنهاج المدرسي، فتسهم في بنائهم وطنيا إلى جانب بنائهم وتأهيلهم علميا.

وقد كان لتحسن الوضع الاقتصادي في البلاد دور مهم في بناء واحدة من اكبر المؤسسات الثقافية المعنية بالطفل، ألا وهي (دار ثقافة الأطفال)، التي كانت تعد الصرح الأهم والأكبر من نوعه في المنطقة، حيث إصدار أرقى مجلات الاطفال والمجاميع الشعرية والقصصية الموجهة لهم، ويعزز هذا انتظام مواعيد الاصدار، التي لها دور كبير في تعليم الصغار قبل الكبار مسألة احترام الوقت... تداعت هذه الصور أمامي وأنا أهم بكتابة هذه السطور عن الطفولة في العراق الآن وما آل اليه وضعها، بعد نحو أربعة عقود من الحروب واللا استقرار، الذي شهدته البلاد، لا سيما في مرحلتي الحصار ومن ثم الاحتلال، الذي استفرخ كوارث لم تكن تخطر على البال.. لقد فقدت المدرسة الابتدائية العراقية الكثير من رصانتها المعهودة تحت ضغط ظروف الحصار وتسرّب الكثير من التلاميذ منها للعمل لإعالة أسرهم في تلك المرحلة القاسية، مثلما فقدت المدرسة لمسات كثيرة كانت تسهم في بناء التلميذ نفسيا وثقافيا ووطنيا، وهنا أتحدث عن ظواهر غريبة، اقتحمت حياتنا وليس عن المجتمع العراقي، الذي بقيَّ على الرغم من كل الذي حصل متماسكا ومحافظا على لياقته الاجتماعية بلا أدنى شك.. لكن هذه الظواهر الشاذة صارت تؤذي مشاعر العراقيين وتؤلمهم.

لانشير هنا إلى شيء غير معروف، حين نتحدث عن ظاهرة الشحاذة التي باتت لها مافيات تقف وراءها، ولعلها اليوم تمثل أحد أوجه الفساد الذي يضرب الدولة والمجتمع معا، لكن الأهم في هذه القضية الحساسة، وهو ما كتبنا عنه كثيرا، استخدام الأطفال في هذه اللعبة المدمرة.. نساء يدعين العوز ويمارسن الشحاذة، يفترشن الأرض وأمامهن أطفال نائمون من الصباح إلى المساء، تحت هجير الصيف وقرّ الشتاء، وفي الحقيقة أنهم مخدرون، وهؤلاء الضحايا الذين يبقون يصارعون هذا العناء، لا بد لمقاومتهم ان تنتهي ليؤتى بغيرهم، والمؤكد أنهم ليسوا ابناء تلك الشحاذات، بل تجلبهم لهن المافيات ليعرضنهن ويستدررن بهم عطف الناس، بينما الأطفال يصارعون الموت أمام أعين المارة والجهات المعنية! إذاً لا بد من أن هؤلاء الاطفال مسروقون أو يتم الحصول عليهم بطرق غير أخلاقية، وقد تحدثت شرطة بغداد مؤخرا عن سرقة أكثر من 480 طفلا في العاصمة، وحدها قبل شهرين من انقضاء العام 2022، ولكم أن تتخيلوا الرقم حين يمتد للسنين السابقة؟!

يرافق هذا المشهد المؤلم، مشهد آخر قد يراه البعض أخف وطأة لكنه ليس كذلك.. أطفال في السادسة والسابعة من العمر يتوزعون تقاطعات الطرق، ليستجدوا بطرق مهينة، كأن يمسحوا زجاج السيارات أو يبيعوا بعض الحاجيات على الناس، وقد حرموا من التعليم الأساسي، ومن الثقافة الوطنية وتركوا نهبًا للشارع وتناقضاته، التي يواجهونها بعدة الطفل البريء، الذي يتلقى هذه الممارسات وتصبح جزءا من سلوكه.. ويبقى السؤال؛ أين نحن اليوم على مستوى بناء الطفل من قبل أربعين عاما؟

حيث كان التعليم إلزاميا وترافقه كل اللمسات المهمة التي أشرنا اليها.. وأين هو برنامج الدولة بعد مرور عشرين عاما على رفع الحصار وتوفر المال الكافي لإعادة الروح لمؤسسات الطفل وللمدرسة الابتدائية، التي تعد الأساس الذي يقوم عليه اي مجتمع وتبنى من خلاله الدول؟... لا شك أن الأمر بات لايطاق والمصيبة أكبر من أن تختزل بأسطر، لأننا أصبحنا نعاني من وجود أعداد هائلة من الشباب الذين لم يتلقوا التعليم الاساسي، وترافق هذا مع وضع اقتصادي سيئ في مرحلة معينة، لكن ما العذر الآن، وقد اصبح بالإمكان إصلاح الوضع من خلال برنامج متكامل ينهض بمؤسسات الطفولة وتوسعتها ايضا، بما يجعل في كل محافظة دار لثقافة الطفل تعنى بالإصدارات المتنوعة، وتقيم لهم الفعاليات الثقافية وتنمي روح الوطنية عندهم، وتشيع الأمل ليس في نفوس الاطفال وحدهم، بل في نفوس الكبار الذين صارت معاناة الطفولة والمناظر اليومية التي يرونها في الشارع تجرح أعماقهم بقسوة!

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق