q
رغم ان الطائفية تضخمت في عهد الاحتلال الامريكي الا انها ذات منشأ عثماني قبل ان تصبح برنامج بريطاني فيما بعد، فإعتمد العراق منذ تأسيسه كدولة مصطنعة من قبل الاحتلال البريطاني على تأسيس هذه الدولة من خلال الدمج العشوائي للمكونات وبقي العراق غارقا بالطائفية، والسبب الاساسي في غرقه بالطائفية...

يصادف يوم 17/3 مرور الذكرى العشرون للغزو الأمريكي وحلفاءها للعراق والإطاحة بنظام صدام حسين، أسفرت العملية العسكرية المعقدة والمثيرة للجدل التي سميت (حرية العراق، تحت مبرر تدمير أسلحة الدمار الشامل التي لم يعثر عليها)، عن حصيلة مدمرة للقتلى وزعزعة استقرار البلاد والمنطقة وفراغ في السلطة أدى إلى ظهور الجماعات الارهابية والمتطرفة.

قبل 20 عام في مثل هذه الايام شهد العراق حملة جوية وبرية مكثفة استمرت لثلاثة أسابيع، سقطت العاصمة العراقية بغداد ومعها باقي المحافظات تباعاً، كان من المفترض ان يحل محل نظام البعث الصدامي نظام ديمقراطي ويتم العمل على اعادة بناء الدولة وفقا لذلك لكن بعد وقت قصير من تحرير العراق من ربق هذا النظام اتضحت معالم الاحتلال الامريكي تتجه خلافا لذلك وقررت سلطة ما يعرف بالتحالف حل الجيش العراقي، ثم تبعها تأسيس ما يعرف بمجلس الحكم الذي وضع اللبنات الاساسية للحكم الطائفي والمذهبي والقومي في العراق.

بعدها وضعت سلطات الاحتلال الامريكي التي ترأسها الحاكم المدني للعراق في حينها بول بريمر دستور مؤقت للعراق عرف بقانون ادارة الدولة الانتقالية، كرس فيه ايضا هذه اللبنات التفتيتية، ثم وضع بشكل مستعجل دستور عام 2005 الذي تبنى رسم هياكل نظام سياسي ديمقراطي برلماني لكنه تضمن ترتيبات رسمية لتقاسم السلطة بين المجموعات العرقية والطائفية الرئيسة في البلاد.

رغم ان الطائفية تضخمت في عهد الاحتلال الامريكي الا انها ذات منشأ عثماني قبل ان تصبح برنامج بريطاني فيما بعد، فإعتمد العراق منذ تأسيسه كدولة مصطنعة من قبل الاحتلال البريطاني على تأسيس هذه الدولة من خلال الدمج العشوائي للمكونات وبقي العراق غارقا بالطائفية، والسبب الاساسي في غرقه بالطائفية كان الدعم الامريكي لوصول طبقة حاكمة ليس لديها البصيرة لبناء عراق شامل ومتعدد الطوائف والاعراق بعيدا عن المحددات الضيقة للعروبة السنية والاسلام الشيعي والقومية الكردية.

لم يسعَ أي من الحكام العراقيين بعد الغزو الامريكي بجدية الى بناء الهوية العراقية المركبة من الهويات العراقية والطائفية والقبلية ولم تستطيع هذه القيادات ان تشكل هوية وطنية أفقية جامعة للتاريخ والمستقبل المشترك، وكذلك لم يطرح المحتل الامريكي بنية سياسية لعراق متعدد ولم تأخذ الهوية العراقية المركبة شكلها المطلوب ابدا ولم تطبق آلية سليمة لتشكيل السلطة السياسية.

المشكلة الاخرى وبعد تفكيك حكم سنة حزب البعث بعد (2003) اعقاب الغزو الامريكي، اعتبر الشيعة وهم غالبية السكان أنفسهم اصحاب مطالب مشروعة لتسلم السلطة السياسية، اما السنة لم يتقبلوا لحد الان الى اتفاق مع حكومة يقودها الشيعة ولهذا يدرك السنة في ضوء تصاعد خسارتهم لوضعهم السياسي ان فكرة الاستقلال سواء كان فيدرالي او كونفيدرالي او دولة سنية هو امر مغري جدا، وهذا الخيار لا زال قائما، ويشعر الكرد ايضا بذلك نتيجة سلبيات التعايش السلمي بين العرب والكرد اضافة الى وجود مقومات فاعلة تجعلهم مستقلين الى حد كبير غير منسجمين مع الحكومة الاتحادية ولهذا لم يقفوا مع الدولة بعد سيطرة تنظيم داعش على ثلث اراضي البلد واستغلوا سياقات هذا الوضع وسيطروا على المناطق المتنازع عليها واجروا استفتاءً على الانفصال عام ٢٠١٧، واستمرت اشكاليات هذه العلاقة المتوترة بين الاقليم والحكومة الاتحادية وانعكاساتها السلبية لغاية الان.

لقد ادى الغزو الامريكي الى مأساة في العراق اذ شهد اضطرابات داخلية غير مسبوقة، فقد تفاقم حجم الاضطراب في العراق بسبب الانقسامات العرقية والطائفية الجديدة والتحولات الديموغرافية الرئيسية التي غيرت طبيعة الدولة العراقية ولم تتحدى هذه الاضطرابات النظام السياسي السائد فقط، لكنها تجاوزت حدود الدول وسلامة أراضيها بعد ظهور القاعدة وداعش كمثال قوي ادى الى تدخلات دولية واقليمية في الشأن العراقي، ومنعطف حرج للولايات المتحدة وللبنية الاقليمية والنظام الدولي.

لقد حدثت مجموعة من التغييرات التي وضعت العالم والمنطقة على مسارات جديدة، تتعلق بالآثار الجيوسياسية فعلى مستوى النظام الدولي، أعاد اللاعبون الدوليون وضع أنفسهم في ضوء حرب العراق، لا سيما في الاستجابة لتراجع القطبية الأحادية، اما البعد الإقليمي فإلى جانب التحولات الجيوسياسية التي أحدثتها، كان لتدمير وإعادة بناء العراق الذي كان دولة إقليمية رئيسية، تأثير كبير على توازن القوى الإقليمية، وهو ما انعكس في المشهد المتغير للقوى والتحالفات الإقليمية.

الحرب على العراق كانت نقطة محورية في وضع منطقة الخليج والشرق الاوسط والعالم برمته على مسار مختلف، اذ فمثلما يقال لا يمكن أن تكون هناك عودة إلى العراق القديم، لا يمكن أن تكون هناك عودة إلى النظام الإقليمي والدولي القديم، وكان لحرب العراق دور حاسم في ضمان ذلك. لقد عملت الحرب والأحداث التي رافقتها على تأكيد الادعاء بأن حرب العراق وعواقبها كانت بالفعل نقطة اللاعودة من حيث النظامين الإقليمي والدولي.

فعلى النطاق الدولي عملت حرب العراق وإعادة تشكيل الدولة فيه على تآكل أسطورة القوة المطلقة الامريكية والغربية وفتح الشرق الأوسط كمساحة تنافسية للفرص الاقتصادية والاستراتيجية، وتسهيل الاصطفافات الدولية الجديدة، وتغيير التصورات عن قوة الولايات المتحدة، وفتح الطريق أمام توازن قوى مختلفة.

ان حرب العراق حدثت في وقت كانت الولايات المتحدة في أوجها كقوة أحادية القطبية، لكن شكّلت هذه الحرب أهم مسارات الاختبار للنظام الدولي الجديد، بعد صعود المد الإسلامي المناهض لأمريكا والغرب، اضافة الى طبيعة الحرب المطولة والتكلفة التي تكبدتها واشنطن، بما فيها الفشل النهائي لتلك الحرب في تحقيق أهدافها المعلنة كل ذلك كان له تأثير كبير على نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة والعالم الأوسع، مما قلل من سمعتها الدبلوماسية، ووضع الأحادية القطبية على المحك، وتزايد التعددية القطبية وتراجع الهيمنة الأمريكية وفشل مشروعها القائم على اساس التوسع الديمقراطي واحلاله في الشرق الاوسط.

كانت الأحداث في العراق حاسمة في بروز تحالفات اقليمية ودولية جديدة تتعارض مع الاهداف الامريكية، واستثمرت الدول المنافسة سياقات الفشل في حرب العراق، في مناطق أبعد، فروسيا والصين اللتان عارضتا الحرب، وساعدتا في منع أي قرار مؤيد من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة كانتا من المستفيدين في النهاية، وإن كان ذلك بطرق مختلفة، لقد شاركوا مخاوف الولايات المتحدة بشأن العراق والاستقرار في الخليج، ولم يكونوا يميلون في ذلك الوقت إلى تشكيل معارضة قوية للتدخل الأمريكي لأسباب تتعلق بالسياسة الداخلية ومكانتهما الدولية ومع ذلك فقد استطاعوا تحقيق مكاسب مادية واستراتيجية من إبعاد أنفسهم عن الصراع وتداعياته اللاحقة، ونشأت فرص جديدة لهاتين القوتين وتطلعاتهما نحو التأثير العالمي، وتعظيم قدراتهما العسكرية والاقتصادية.

بالنسبة للصين كانت الفرصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا اقتصادية في معظمها، وأصبحت المنطقة مركزا لمبادرة الحزام والطريق الصينية الطموحة، والتي تم الكشف عنها في عام 2013، وبحلول عام 2020 أصبحت الصين شريكا تجاريا رئيسيا لدول المنطقة ومستوردا لنفط الشرق الأوسط، ولكنها كانت أيضا في المرتبة الأولى في طليعة التعاون مع دول المنطقة مستغلة انشغال واشنطن بالحرب، فالحرب على العراق كان لها تأثير واضح على الصين وشجعها على التفكير عالمياً؛ ودفعها نحو الابتعاد عن الانعزالية والتمتع بمزايا العضوية في مجتمع دولي موسع.

اما بالنسبة لروسيا كانت الفرصة اقتصادية واستراتيجية وسياسية التي وفرتها حرب العراق، لإعادة تأسيس موطئ قدم إقليمي في هذه المنطقة، وبالأخص الدعم الدبلوماسي والسياسي والعسكري الذي قدمته روسيا للعراق وبعدها سوريا ثم ليبيا، وأصبح النفوذ الروسي متنامي في العالم العربي، اذ استغل الروس تراجع شهية الولايات المتحدة التدخل والانسحاب من العراق.

اما بريطانيا فتأثرت سلبا بسبب اسهامها مع الولايات المتحدة في غزو العراق اذ قلل ايضا من مكانتها وسمعتها العالمية وساعدت تلك الحرب على إبعادها عن الاتحاد الأوروبي، وبالتالي الاسهام في نتيجة التصويت على خروجها من الاتحاد الأوروبي، إذا كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يتعلق جزئياً بقرار التدخل مع الولايات المتحدة في العراق، وبدون غطاء من الأمم المتحدة دون تحقيق اي اهداف في منطقة نفوذها السابقة، واصبحت لندن قوة سياسية ضعيفة.

باختصار أنتجت حرب العراق تحولات جيوسياسية كشفت عن المسرح الدولي باعتباره مساحة أكثر تعددية وتنافسية لمجموعة متنوعة من القوى الأخرى، وفرضت تحديات مباشرة على الولايات المتحدة والسلطة الغربية في المنطقة والعالم الأوسع، أدى إلى تقصير اللحظة الأحادية القطب وتآكل ادعاءات واشنطن والغرب لّليبرالية الدولية.

اما على النطاق الاقليمي، كان هناك جوانب وتداعيات إقليمية كبيرة، من أهم هذه الجوانب تقليص مكانة العراق وتمزيقه كدولة إقليمية قوية مما أدى إلى تفاقم العنف الطائفي على نطاق واسع وتعزيز صعود القاعدة وداعش وجماعات متطرفة اخرى، واضافة الى التقسيم الطائفي الداخلي في العراق انعكس ذلك على تمحورات هذا الانقسام صوب المحاور الدولية والاقليمية، فظهر الكرد في كردستان كقوى شبه إقليمية مدعومة من الولايات المتحدة والغرب متقارب مع تركيا، وفي الجانب الآخر ظهرت القوى الشيعية وعُمِقَ اصطفافها نحو محور شيعي مع إيران، وما صاحب ذلك من تغييرات في ميزان القوى الإقليمي بما في ذلك تعزيز الموقف التنافسي لدول الخليج الأخرى المطلة على الخليج، ولا سيما المملكة العربية السعودية، التي تقاربت وتموضعت معها اغلب القوى السنية العراقية.

وتجاذبت هذه القوى الثلاثة سياسيا وحتى اجتماعيا وخضعت لاستراتيجيات الهيمنة لإيران والمملكة العربية السعودية وتركيا فضلا عن الأدوار المتناقضة لإسرائيل، طالبة التمكين في مواجهة كل قوى للأخرى، لتتنافس وتتصارع وتتدخل هذه الدول الثلاثة اضافة الى واشنطن في الشأن العراقي على نحو مستدام نحو إشراك حلفائهم ووكلائهم في العملية السياسية وتمكينهم فيها، واصبح العراق بالنسبة لهذه الدول ضمن استراتيجياتها المباشرة في البحث التنافسي عن النفوذ الإقليمي، اذ أثبتت الحرب وعواقبها أنها حاسمة، ليس فقط في تصاعد التنافس السعودي الإيراني، ولكن في تعميق الانقسامات الطائفية في العراق وخارجه مع جذب دول وفاعلين آخرين في المنطقة ودخولها في فترة جديدة من الاضطرابات في أعقاب الانتفاضات العربية بعد عام 2011، حيث امتد التنافس إلى سوريا واليمن، بعد ان دعمت الدولتان أطرافاً مختلفة في حروبهما.

لقد تراجع العراق كفاعل اقليمي بعد الغزو الامريكي لبغداد، سابقا كانت القوى الغربية والدول العربية على حد سواء تعتبر العراق بمثابة توازن مفيد في المنطقة ازاء ايران ومصر وسوريا وتركيا، لتتراجع الأهمية المركزية للعراق داخل هياكل القوة الإقليمية منذ عام 1991 وحتى الان، وتراجعت أهميته وتم إزالته كدولة أساسية بعد عام 2003 في وقت اتسم بعدم الاستقرار العالمي والإقليمي.

هذا التراجع العراقي وصعود ايران دفع بعض الدول العربية للاقتراب من إسرائيل، مما أدى إلى مزيد من تمزيق أي إجماع عربي ممكن على النقيض من ذلك سعت استراتيجية تركيا إلى إظهار قيادتها الإقليمية والعالمية بالفعل من خلال استراتيجيات الموازنة والوساطة والتدخل.

هناك شيء واحد مؤكد بعد الإطاحة بنظام صدام حسين، هو فشل حرب العراق في تحقيق الأهداف الرئيسية التي توقعها أبطالها الرئيسيون ولا سيما الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتين سعتا إلى الترويج للحرب كحملة صليبية ليبرالية ضد نظام مستبد وخطير، نظام له آثار عدوى من شأنها أن تفيد المنطقة والعالم بأسره، وبإخفاقها في تحقيق هذه الأهداف، وفي سوء قراءة الوضع في العراق، أضرت الحرب بشكل خطير بالمصالح والمصداقية الغربية، حتى تغيير النظام وان كان له ايجابياته المهمة على الصعيد الداخلي عراقيا، لكن سلبياته عززها الواقع العراقي الحالي من فساد وتشتت وضعف على نحو متزايد، ولّد عدم استقرار وتوترات كبيرة، مما أدى إلى تفاقم الانقسامات على المستويات كافة التي لا يزال الشعب العراقي يدفع ثمنها.

قد تكون بعض الدول والجهات الفاعلة الإقليمية والداخلية، مستفيدة من هذه التغيير ولكن بشكل عام تركت حرب العراق أثراً من العواقب مع تداعيات أمنية كبيرة، كشفت مدى سوء الحكم والإدارة والقرار الذي قادته الولايات المتحدة بالذهاب إلى الحرب، واسقاط نظام صدام حسين واعادة تشكيل الدولة العراقية على نحو خاطئ.

ادت هذه الحرب بعد مرور عشرون عام الى منعطفاً حاسما للشرق الأوسط القديم قد حصل، وهو إضفاء الطابع الأمني على السياسة الطائفية لدول المنطقة، اذ ظهرت الطائفية باعتبارها السرد الرئيسي للصراع الإقليمي في أعقاب غزو العراق عام 2003، ثم أصبحت فيما بعد مترسخة عبر الفراغ السياسي وديناميكيات المنافسة الجيوسياسية.

كل هذا الاخفاق والفشل والتراجع والصراع والعنف الطائفي والتحول الاستبدادي الجديد الذي عاشته المنطقة عقب الانتفاضات العربية في عام 2011 ولا زال مستمرا، ارتبط بشكل مباشر بمقدمات غزو العراق ونتائجه اللاحقة.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/ 2001–2023Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق