ان الواجب الأساس للدولة الحديثة هو التنظيم من خلال التثقيف والتربية والتعليم، وليس التخويف والتقنين، وكلما قل تدخل الدولة كلما كان المجتمع أكثر رقياً. أن علينا أن نعلّم أكثر مما نحرّم، وأن يكون واجب الدولة الرئيس هو التعليم لا التشريع، وبناء المدارس بدلاً من بناء القوانين...
في مقال سابق انتقدت الفهم المشوه للديموقراطية القائم على التأكيد على حكم الأغلبية، وأغفال الشرط الآخر لها وهو “حماية الأقلية”. اليوم سأوضح الأبعاد الأخلاقية التي قامت عليها معادلة الديموقراطية بجناحيها: حكم الأغلبية وحماية الأقلية والتي تجعل منها أفضل منظومة حكم أخترعها الأنسان حتى يومنا هذا على الأقل، وبغض النظر عن الأخطاء الكثيرة والكبيرة التي وقعت فيها التطبيقات المختلفة لنظام الحكم هذا.
خلال مسير حياته الطويلة منذ بدء الخليقة سار التطور الاجتماعي البشري باتجاهين متلازمين هما: من الفردية للجماعية، ومن الصيد والترحل الى الاستقرار والحضارة. لقد أدرك الأنسان بعقله وأرادته أن العيش بمفرده أو أسرته بعيداً عن الآخرين سيفقده كثير من المزايا المادية والنفسية والاجتماعية التي يؤمنها له اجتماعه مع الآخرين.
لقد لاحظ أبن خلدون أن العمران (الاجتماع) البشري يؤمن للإنسان مضاعفة قدراته وامكاناته مما يجلب له النفع الكبير ويؤمن له الانتصار في مواجهته مع عوامل البيئة المحيطة به. لذا فأن القول بأن الاجتماع البشري ناجم فقط عن كون الأنسان حيوان اجتماعي بطبعه (مقولة أرسطو) هو قول منقوص، لأن الأنسان هو أيضاً كائن عاقل ومفكر يعرف كيف يضاعف قدراته وبالتالي منفعته من هذا الاجتماع بالآخرين.
لكن هذا الاجتماع البشري أدى باضطراد الى تزايد المستوطنات البشرية عدداً مما خلق حاجات إضافية لا بد من تلبيتها كي يمكن لهذا الاجتماع أن يُنتج ويُثمر خيراً للبشر. فكانت الأعراف والمعايير والتقاليد الاجتماعية جزءاً مهماً من ضرورات العمران البشري.
أن الحضارة civilization هي في شطرها الأهم اقامة النظام والعرف والقانون كي يعرف كل ذي حق حقه ويُمنع ذوي الطول والقوة من الاعتداء على حقوق الآخرين. فالقانون في أساسه وُضع ليحمي الضعفاء وليس لينصف الأقوياء، لأن القوي ليس بحاجة لمن ينصفه.
لقد وضع القانون ليحقق الساق الثانية للحرية كما وصفها مونتسكيو وفولتير وروسو وسواهم من التنويريين الا وهو المساواة. فالأنسان حين قرر بإرادته الانضمام لبني جنسه لأنشاء مجتمعات متحضرة لم يكن يفتقد للحرية، بل أن حريته آنذاك كانت تفوق حريته بعد الاجتماع والتي أضطر للتنازل عن جزء منها لتحقيق المساواة مع الآخرين.
ان من يعتقد أن حكم (الأغلبية) سيصنع حضارة فهو واهم لأنه في الواقع سيهدم تلك الحضارة. فالأغلبية التي تعني الأقوى بمفهوم التغالب الذي يستند له البعض في فهمهم للديموقراطية ستؤدي لفرض الإرادة على (الأقلية) طبقاً لهذا المفهوم.
عند ذاك ستفكر الأقلية بالهدم أو الفرار فلا يعود للحضارة معنى. لذا قال سقراط لأرستيبوس ”أذا كنت تظن أن من الأصوب أن تعيش محكوماً لا حاكماً فأني أظن أنك سترى سريعاً كيف يتعلم الأقوياء معاملة الضعفاء معاملة العبيد”. فما الذي يجعل الناس ترغب أن يعيشوا كالعبيد في بلد يكون فيه الحكم للأقوى، أو الأكثر عدداً؟! تشير التقديرات أن هناك 5-10 مليون عراقي غادروا العراق وأن هناك 10-15 مليون آخرين (جلهم ممن يشعرون بالتهميش المادي أو الاجتماعي) يودون مغادرة العراق فأي مجتمع هذا الذي تريده الأغلبية؟
أن من يعتقد أن أغلبيته (التي ما زلت مصراُ أنه يفهمها بشكل مشوه ومغلوط كما بينت في المقال السابق) تتيح له بموجب مبادئ الديموقراطية سن القوانين التي تخدمه لوحده فهو لم يفهم الأساس الأخلاقي لقيام الدولة ولوظيفة التشريع. لقد خُلقت الدول (بسلطاتها الثلاث) بعد تطور وتنوع المجتمعات لكي تخدم الأنسان وليس ليخدمها الأنسان. وكلما زادت القوانين المشّرّعة كلما دل ذلك على أن تلك هي دولة لصوص ومجرمين تحتاج لقوانين تحكمهم.
ان الواجب الأساس للدولة الحديثة هو التنظيم من خلال التثقيف والتربية والتعليم، وليس التخويف والتقنين، وكلما قل تدخل الدولة كلما كان المجتمع أكثر رقياً. أن علينا أن نعلّم أكثر مما نحرّم، وأن يكون واجب الدولة الرئيس هو التعليم لا التشريع، وبناء المدارس بدلاً من بناء القوانين. وعلى (الأغلبية) أن تفهم أنه لا قيمة لامتلاك تذكرة رجال أعمال حينما تكون الطائرة عاطلة.
اضف تعليق