مدحت المحمود هذه الشخصية العامة لا يعرفها الكثيرون حتى وقت قريب على الرغم من سجل صاحبها الوظيفي والأكاديمي الممتد طوال خمس وخمسين عاماً بدءا من ممارسته المحاماة عام 1960 مروراً بتعيينه في السلك القضائي محققاً عدلياً ثم قاضياً ثم محاضراً ثم رئيساً لمحاكم الاستئناف، وإشغاله لمناصب قضائية متعددة في حكومتي أحمد حسن البكر وصدام حسين، وانتهاءً بترؤسه في الوقت الحاضر لأكثر من جهة رسمية قد يكون من أشهرها رئاسته لمجلس القضاء الأعلى.
لكنَّ هذه الشخصية التي يبدو على صاحبها الحذر الشديد من الظهور في وسائل الاعلام تحوَّلت منذ وقت ليس بالقصير إلى عنوان مثير للسجال في أوساط النخبة السياسية والاعلامية العراقية، ولاسيما في فترة الدورة الثانية من حكم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي حين كان لقرارات المحكمة الاتحادية التي يرأسها المحمود أيضا الكلمةُ الفصلُ في فضِّ بعض النزاعات القانونية التي كان المالكي فيها يمثل دور الطرف المنتصر قضائياً غالباً.
وبعد تنحية المالكي واستبداله برئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي انحسر إلى حدٍّ كبير اهتمامُ الرأي العام بمدحت المحمود، لكنَّ هذا الرجل ما لبث طويلا حتى غدى حديث الشارع العراقي هذه المرة، وتحديداً قبل أسابيع من هذا التاريخ تزامناً مع انطلاق التظاهرات المطالبة بمكافحة وجوه الفساد، فثمَّةَ تصاعدٌ ملحوظ لموجة الهتاف الشعبي المطالب بإقصاء مدحت المحمود فوراً، ومن المتظاهرين من دعا إلى محاكمته باعتباره سبباً في استصدار بعض أحكام كان من شأنها إحداث تغيير جذري في معادلات القوى السياسية النافذة بل في مجرى الحدث السياسي العراقي العام، ولاسيما ما يتعلق بمشهد الانتخابات البرلمانية العراقية عام 2010م وتفسير المحكمة الاتحادية العليا للمقصود من القائمة الفائزة دستورياً...
لكن مقابل الرؤية السابقة التي تحدد الخلل في صورة مدحت المحمود هناك من يقف بالضد من الهتاف العالي الذي يستهدف الإطاحة بهذه الشخصية، وحجته في ذلك أن الأمر أكبر من عنوان وظيفي يشغله هذا الرجل أو ذاك. إن الخلل الحقيقي بحسب هذه الرؤية المختلفة عن سابقتها يتعلق بالمؤسسة القضائية برمتها، هذه المؤسسة التي لم تستطع تأدية دور أكبر من دور وزارة العدل في النظام السياسي السابق على الرغم مما يحيطها من هالة إعلامية مزيفة، ذلك أنها بحسب هذا الطرح مجرد مؤسسة تعج بالترهل الإداري، وليس لها من الصلاحيات الحقيقية ما يضمن استقلالها الدستوري فعلاً عن الحكومة.
هذا السجال بين من يرى أن المشكلة بالشخص، ومن يراها في المؤسسة سجالٌ واقعي ولا بد من التعاطي معه بإيجابية، فالحق أن كلَّ طرف من طرفي السجال يحمل من الأدلة على صحة وجهة نظره مما لا يصمد في ردها كثير من مغالطات المتفلسفين، وما أكثرهم في أسواق النقض والإبرام العراقية، ومع هذه الحقيقة فلا مناص من الأخذ بما تمليه كلٌ من هاتين الرؤيتين المتباينتين، والعمل الجديّ على التحقق التام مما تطرحه كلٌ منهما من معطيات.
لكنَّ المشكلة التي تصادف العراقيين في تحقيق هذه الغاية الآن تكمن من وجهة نظري في جدول الأولويات، فمع من تكون البداية يا ترى؟ هل بإقصاء هذه الشخصية المثيرة للجدل أو بمراجعة ملف السلطة القضائية بشكل كامل تمهيدا للحكم له أو عليه في ضوء ما تنتهي إليه تفاصيل المراجعة المطلوبة؟ أتصور أن أيَّ ناظرٍ للمسألة بعين التدبر سيذهب إلى تأجيل مراجعة ملف السلطة القضائية لاستلزامه إجراءات دستورية معقدة، وقراءات نخبوية مستفيضة، ومع هذا الرأي فلا بدَّ من الشروع الفوري في الاستجابة إلى المطلب الجماهيري الداعي إلى عزل مدحت المحمود أولا، والنظر في لائحة التهم الموجهة إليه شعبيا، ومحاكمته في حال ثبوت إدانته، وتبرئته بخلاف ذلك، وهو فرضٌ غير مستحيل فالرجل يملك كما أسلفنا سجلاً وظيفياً مرموقاً على الرغم مما يثيره خصومه من قضايا ضده تصفه حيناً بكونه أداةً من أدوات النظام الدكتاتوري السابق، وحينا آخر تصفه بكونه يد نوري المالكي الضاربة.
كلمة ذات صلة: مطاردة اللص أجدى من التفكير في معرفة الثغرة التي دخل منها إلى البيت.
اضف تعليق