مدار العمل السياسي الناجح يقتضي السعي لإرساء سياسية الاحتواء وليس صناعة العداء. ومن هنا ينبغي إلى قوى الإطار العمل بعدة محاور، أولها ترسيخ الانفتاح الإقليمي وإيجاد مساحة واسعة من التوازن والتنازل عن أحادية الميول، وتعامل مع الواقع ببراغماتية عالية والاتساق مع المتغيرات، والسعي إلى إعادة ثقة الجمهور العراقي...
التصدي لممارسة العمل السياسي وخوض غماره، يقتضي على المرء التخلي عن عدة صفات غرائزية، أهما القدرة على التجرد والتحرر من الأطر والمحددات التي من شأنها أن تضيق مساحة اللعب وتجعل من الممارسة السياسية أحادية في التوجه والنتائج، الأمر الذي يشكل خطرا جسيما على الأفراد – المتصدين- وعلى العملية السياسية برمتها، إذ لا يمكن بأي شكل من الأشكال خلق مزاوجة بين المصلحة العامة والمصالح الشخصية الفئوية الحزبية، التي ستفضي بطبيعة الحال إلى إدراج القيم السياسية العليا في غياهب الاندثار.
لا ريب أن ما حصل في الآونة الأخيرة من مناكفات وإرهاصات سياسية بين القوى المتنافسة يندرج تحت عنوان الصراع الشخصي وإثبات الوجود، المتأتي من مخاوف التفرد والإقصاء من قبل الآخر إذا ما تسنى له الإمساك بزمام السلطة والتمتع بالنفوذ.
التيار الصدري والإطار التنسيقي، القوتان اللتان لا يختلف أحد على تغولهما في السلطة والاشتراك في إدارة جميع الحكومات المتعاقبة، بعناوين ومسميات مختلفة، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال مهما حاولت ماكنتهم الإعلامية تجميل الصورة وعادة تأطيرها من النأي بأحد منهم عن دائرة الفشل والفساد الذي أحكم بأخطبوطية أذرعه جميع مفاصل الدولة في ظل إدارتهم، بالتالي، ليس من المنطقي بمكان رسم صورة مثالية لأحدهم دون مراجعة سياساته والبحث عن مخرجات شعاراته وأطروحاته السياسية، التي مهما حاول الباحث عن بصيص أمل يعول عليه بين طيات الماضي، لا يجد سوى المزيد من الفشل المؤطر بالذرائعية الشعاراتية الجذابة في الظاهر الخادعة في البطن الخالية من أي مخرجات.
ماذا يريد الإطار؟ وإلى ماذا يسعى التيار؟
من جملة المتغيرات التي لا يمكن المرور عليها مرور الكرام وتجاوز تأثيرها في المشهد السياسي، هي ما حصل في عام (2019- حراك تشرين) بغض النظر عن الأجندات والشبهات التي اعترتها ومساعي ركوب موجتها، إلا أن تأثيرها وآثارها كانت بمثابة درس بليغ للقوى السياسية بمختلف توجهاتها، الأمر الذي دفع بالقوى السياسية إلى الوقوف ومراجعة سلوكها، والتعاطي معها بما يؤمن لتلك القوى مساحة جديدة للعب بالاتساق مع هذا المعطى، كورقة ضاغطة جديدة تضاف إلى أدوات اللعبة السياسية الحالية...
قوى الإطار التنسيقي أدركت جيدا حجم الخطر المحدق بمستقبلها السياسي في حال تصدي التيار الصدري للحكومة، وكذا هو الحال أيضا لدى التيار الذي بدأ مبكرا استشعار خطورة تصدي الإطار للمشهد، مما دفع بالأخير إلى بذل أقصى طاقته واستخدام شتى الوسائل للحيلولة دون تفرد التيار وحلفائه بالحكومة، بينها الاستعداد للصدام المسلح إذا تطلب الأمر، وقد حصل، حينما بلغ الضغط حد الانفجار على أسوار المنطقة الخضراء، واستيلاء اتباع التيار الصدري على مجلس النواب لأجل منع تشكيل الحكومة من قبل الإطار.
إلا أن التيار لم يدرك جيدا أن حلفاءه اللذين كان يعول عليهم لأجل لي عنق الإطار، يمتازون بالبراغماتية العالية وليس ضمن حساباتهم المجازفة او التخلي عن السلطة بأي شكل من الاشكال، سواء كان مع التيار او الاطار، فمدار حراكهم السياسي يدور حول الاقوى والاكثر نفوذا، ولينا في التعامل ومتطلباتهم الحزبية.
والامر الآخر الذي ينبغي الوقوف عنده هو العداء الصدري لايران، الذي كان من اهم نقاط المراهنة بالتقارب العربي والانفتاح نحو آفاق جديدة تؤهل التيار تصدي المشهد وفق نظرية "عدو عدوى صديقي" مقابل الحصول على الدعم السياسي بما يملكه الثقل العربي الخليجي من اهمية في المنطقة مضافا لمقبوليته لدى الإدارة الامريكية، الا انه ورغم كل هذه المقدمات لم يفلح التيار الصدري بالحصول على مبتغاه...!
في حين الإطار الذي كان يعيش العزلة إلى حد كبير على المستوى الإقليمي والدولي والداخلي أيضا نتيجة ما سبق من حراك جماهيري (تشرين) والدفع باتجاه التنكيل به وإسقاطه في نظر الجمهور، وتقاربه من إيران التي تعد بوابة خطر على المنطقة في نظر العديد من القوى الإقليمية والدولية والداخلية، استطاع وباحترافية عالية من استثمار الثغرات واستمالة القوى الدولية والإقليمية والداخلية لصالحه، رغم عدم امتلاكه للعديد من المؤهلات التي كان يمتلكها التيار، ومنها تأثير الشارع والحلفاء من السنة أو الكرد والمقبولية العربية الخليجية... لكن هل هذا يعني أن الإطار استطاع التفوق على التيار الصدري؟ الجواب: كلا.
لان مدار العمل السياسي الناجح يقتضي السعي لإرساء سياسية الاحتواء وليس صناعة العداء. ومن هنا ينبغي إلى قوى الإطار العمل بعدة محاور، أولها ترسيخ الانفتاح الإقليمي وإيجاد مساحة واسعة من التوازن والتنازل عن أحادية الميول، وتعامل مع الواقع ببراغماتية عالية والاتساق مع المتغيرات، والسعي إلى إعادة ثقة الجمهور العراقي وتعزيزها من خلال تلبية ما يتطلبه الشارع، خدميا واقتصاديا وغيرها، والمحور الآخر يتمركز حول قدرتهم في إمكانية عدم استفزاز التيار الصدري الذي أصبح يمثل قنبلة موقوتة لا أحد يعلم انتهاء توقيتها...!
من الأجدى على الإطار بالدرجة الأساس والتيار الصدري أن يدركا جيدا أن لا مناص لهم بعد كمْ من التجارب القاسية التي مروا بها خلال الفترة الماضية، من تعاضد الجهود ولملمة أطرافهم والمضي برؤية جديدة تحت سقف المشتركات، فلا حلفاء الداخل أو الخارج قادرون على خلق التوازن المناسب الذي يمنع الانزلاق ولا التمحور والعداء ستفضي نتائج إيجابية مرضية بكل الأحوال.
اضف تعليق