فكرة السلام في الإسلام لها مضامين عبادية لكونها تتصل بعبادة هي فريضة الصلاة، وبهذا المضمون العبادي تتأكد كذلك أهمية فكرة السلام وترتفع قيمتها في الإسلام، بمعنى أن فكرة السلام في الإسلام تسرى فيها روح عبادية تذكر بها، وتحرض عليها، وتضيف لها، وترفع من وزنها، وتثري في مضامينها...
من المفارقات التي تثير الدهشة والتعجب المنزلة المتعاظمة التي يوليها الإسلام لفكرة السلم والسلام من جهة، وتراجع هذه الفكرة وتقلصها أو غيابها في مجتمعات المسلمين المعاصرين من جهة أخرى. فالطريقة التي تعامل بها الإسلام مع فكرة السلم والسلام فيها كل ما يثير الدهشة والتعجب، لكن ما يثير الدهشة والتعجب أننا كمسلمين لم نعد ننظر إلى هذه الفكرة على مستوى النظر، ونتعامل معها على مستوى العمل بهذه الطريقة.
نعلم علم اليقين أن السلم والسلام يمثل قيمة في منظومة القيم الإسلامية، حالها حال القيم الأخرى التي لها أهميتها ومنزلتها، لكن من دون أن تتسم هذه القيمة وتتميز عندنا بإثارة الدهشة والتعجب.
إن وضع فكرة السلم والسلام في خانة الدهشة والتعجب، لكون أن الإسلام تعامل مع هذه الفكرة بطريقة تلفت الانتباه بشدة إليها، وبصورة تبعث على التأمل والتبصر والتفكر فيها، وتجعلها في دائرة التذكر والتذكر المستمر، وبشكل تكون فيه بعيدة عن التجاهل والخفاء والنسيان، وحاضرة في التداول اللساني الفردي والاجتماعي، وبنوع من التلقائية العفوية والبسيطة.
والسؤال من أين جاءت إثارة الدهشة والتعجب لفكرة السلم والسلام في الإسلام؟
عند النظر في هذه الفكرة وموقف الإسلام منها، يمكن أن نلحظ إثارة الدهشة والتعجب من جهات عدة، فمن جهة ماذا يعني أن يكون السلام هو الشيء الذي نختم به صلواتنا الخمس اليومية، وننطق به لسانيا قائلين: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، ونختم الصلاة فردية وجماعية ثم ننصرف إلى شؤوننا الخاصة والعامة.
لا شك أن الشيء الذي يكون في خاتمة الصلاة، لا بد أن يكون أمرا مهما في نظر الإسلام على المستوى الفردي الخاص، وعلى المستوى الاجتماعي العام.
هذه ملاحظة شديدة الأهمية، وهي بحاجة إلى تأمل وتبصر وتفكر لاستكشاف عمق حقلها الدلالي، لكننا لا نتعامل معها بهذه الطريقة لأننا سلبنا منها خاصية إثارة الدهشة والتعجب، وغلب عليها حالة الرتابة والسكون، حالها حال كثير من الظواهر المهمة التي اعتدنا عليها وأصبحت جزءا من نظام الروتين العام في حياتنا اليومية العادية والرتيبة، وهذه بصورة عامة من آفات الظواهر المعتادة وخاصة التي تحصل بصورة يومية.
ومن مكونات الحقل الدلالي لهذه الملاحظة، أن السلام بوصفه من أذكار فريضة الصلاة اليومية، وتتأكد قيمة هذا الذكر في كونه يقع في خاتمة الصلاة، وبه تختم الصلاة، وله فضيلة الخاتمة، وقد اعتاد الناس لا أقل العرب منهم تقدير خاتمة الشيء، وأعطوه وصف المسك قائلين ختام الشيء مسكه.
وهذا يعني أن السلام من مكونات الحقل الدلالي للصلاة ويتصل بفلسفتها وحكمتها العامة، والشيء الذي يتصل بالصلاة تتأكد أهميته وقيمته، وذلك لمنزلة الصلاة وعظمتها في الإسلام، من هنا يمكن القول إن من أبعاد فلسفة الصلاة هو نشر السلام وإشاعته في ساحة المسلمين، وضرورة أن يتحول الإنسان المسلم إلى داعية سلم وسلام بين المسلمين، ليس بصورة مؤقتة وإنما بصورة دائمة، وليس في مكان محدد وإنما في جميع أمكنه المسلمين أينما كانوا، وليس في زمان بعينه وإنما في جميع الأزمنة، وليس في نطاق فئة وإنما في نطاق جميع فئات المسلمين على تنوع وتعدد مذاهبهم الإسلامية.
ويتصل بالحقل الدلالي لهذه الملاحظة، أن فكرة السلام في الإسلام لها مضامين عبادية لكونها تتصل بعبادة هي فريضة الصلاة، وبهذا المضمون العبادي تتأكد كذلك أهمية فكرة السلام وترتفع قيمتها في الإسلام، بمعنى أن فكرة السلام في الإسلام تسرى فيها روح عبادية تذكر بها، وتحرض عليها، وتضيف لها، وترفع من وزنها، وتثري في مضامينها.
وبهذا تكون الصلاة قد أعطت فكرة السلام صفة التذكر والتذكر الدائم والمستمر، أي إن الصلاة هي العبادة اليومية التي من وظائفها تذكير المسلمين كافة بفكرة السلام بصورة يومية، وليس في مرة واحدة وإنما في خمس مرات وأكثر في اليوم، الحال الذي يفترض فيه أن يكون الإنسان المسلم الأكثر إرتباطا، والأشد تمسكا، والأقوى تبصرا بفكرة السلم.
ومن جهة ثانية، ماذا يعني أن تكون فكرة السلام هي عنوان تحية المسلمين كافة، وهي تحية لسانية وليست قلبية، وتحصل عادة بصيغة الجمع وليست بصيغة المفرد، وصيغتها المتداولة والثابتة هي: (السلام عليكم)، ويجري العمل بها في الابتداء والانتهاء، في إبتداء اللقاء وعند الانتهاء منه.
هذه الطريقة في التعامل مع فكرة السلام وجعلها شعارا وعنوانا للتحية بين المسلمين، أليس في هذا الأمر ما يثير الدهشة والتعجب! ولكن أين هي هذه الدهشة وهذا التعجب في طريقة تعامل المسلمين مع هذا الأمر ومع هذه الفكرة.
ومن الواضح أن الإسلام أراد من هذه الطريقة إشاعة فكرة السلام في مجتمعات المسلمين، من خلال هذا الضخ المكثف والواسع والمستمر وبشراكة من الجميع، وهذه هي أفضل طريقة بل هي الطريقة الفعالة في إشاعة أية فكرة من الأفكار، وأيه قيمة من القيم.
كما أن الإسلام أراد من هذه الطريقة تحويل الإنسان المسلم إلى داعية سلم وسلام يخاطب الناس كافة بتحية السلام، وهي شعاره ورمزه وعنوانه، وبقصد أن تصبح مجتمعات المسلمين مجتمعات نابضة ومشعة بفكرة السلام، الحال الذي كان يفترض منه أن تكون مجتمعات المسلمين أكثر مجتمعات العالم سلما وسلاما، ونشرا وإشاعة للسلم والسلام.
من جهة ثالثة، ماذا يعني أن يكون اسم الإسلام مأخوذا من مادة السلم والسلام، ولماذا من هذه المادة تحديدا! أليس في هذا الأمر ما يثير الدهشة والتعجب في طريقة التعامل مع فكرة السلام في الإسلام، لكنها الدهشة التي تلاشت واضمحلت ولم يعد لها من أثر يذكر.
ألا يفهم من هذا الأمر أن فكرة السلام هي أقرب صفة إلى الإسلام، وأن الإسلام بهذا القرب وبهذا التلازم هو دين سلام، وجاء لنشر السلم والسلام بين الناس كافة مسلمين وغير مسلمين! فلماذا تغير الحال؟ وإذا بمجتمعات المسلمين تتحول إلى مجتمعات تسودها الفوضى والحروب والنزاعات، وتصبح معرضة لمخاطر التمزيق والتفتيت والتقسيم! ولماذا تخلى الإنسان المسلم عن صفة السلم والسلام، وأصبح هناك من يدعو إلى القتل والتكفير والتخريب، هذه هي المفارقة المحيرة.
اضف تعليق