من غير المعقول، وأكيد من غير الانصاف أن يغادر بعض الناس حياتنا دون أن يملكوا مكانا للسكن في هذا الوطن الكبير الذي فيه من المساحات الفارغة أضعاف ما مشغول، مؤسف جدا أن يقضوا أعمارهم كالبدو الرحل يتنقلون وأطفالهم من بيت لآخر تحت رحمة المؤجرين، وغصة بدل الايجار في البلعوم...
من غير المعقول، وأكيد من غير الانصاف أن يغادر بعض الناس حياتنا دون أن يملكوا مكانا للسكن في هذا الوطن الكبير الذي فيه من المساحات الفارغة أضعاف ما مشغول، مؤسف جدا أن يقضوا أعمارهم كالبدو الرحل يتنقلون وأطفالهم من بيت لآخر تحت رحمة المؤجرين، وغصة بدل الايجار في البلعوم مع أي وجبة طعام يتمنون تناولها دون منغصات، وهاجس للقلق منذ أول الشهر حتى نهايته.
واذلال ما بعده اذلال عندما يطل الشهر برأسه ولم يتمكنوا من جمعه، ومنهم من اختنقت بيوت أهاليهم من كثرة التقسيمات حتى غدت كالقبور يحشرون فيها حشرا، هي غرفة نوم ومطبخ وصف دراسي، ومنهم من حالفه الحظ بالحصول على قطعة أرض، لكن شارف عمره على الانتهاء قبل أن تتكحل عيناه بمرأى ملاذ أطفاله، حتى فقد البيت بريقه، بعد عقود من لوعة البرد والحر، لا قيمة للأشياء عندما تأتي في غير أوانها، أي عمر هذا وأي حياة؟ ومع ذلك يُراد لهؤلاء الناس أن يحبوا وطنهم، ويستعدون للتضحية من أجله يوم النداء.
وما كان لهؤلاء الناس وأمثالهم للتحرر من العبودية والاذلال الا التجاوز على الفارغ من الأمكنة ليستحدثوا أحياء بائسة اطلق عليها مجازا بالحواسم، خارقين القوانين، ومتجاوزين على هيبة الدولة، ومشوهين لشكل المدينة التي جاءت المساحات الفارغة فيها لوظيفة أخرى بحسب تخطيطها العمراني.
المتجاوزون أنواع: منهم من لا حاجة لهم بها، ولديهم ما يكفيهم بدلالة بناء قصور فارهة في هذه الأمكنة، لكن الطمح غلبهم، وأموال الدولة وممتلكاتها السائبة أطالت في أيديهم، وكأن لا وجود للدولة، وهي هكذا حقا، (فالبلاش) أحلى من العسل كما يقولون، وهكذا مضى عقدان على هذه التشوهات في مراكز المدن وخواصرها والتي قادت بدورها الى تشوهات أخرى كالتجاوز على خطوط الكهرباء والماء وغيرها، ومع ذلك غضت الحكومات المتعاقبة طرفها، ولم تتخذ الحاسم من الاجراءات بحكم ضعف حال هؤلاء الناس، واندراج غالبيتهم تحت خط الفقر، ويتعذر مطالبتهم بالمغادرة، لقد أشعر هذا التراخي الملتزمين بالقانون والمحترمين للدولة بالندم لعدم تجاوزهم كما الآخرين، اذ ربح المتجاوزون وخسر الملتزمون، ما يشيع ظاهرة التجاوز، مع قناعة راسخة ان الحكومات ستتعامل معها كأمر واقع.
لست مع اخلاء الأمكنة وتشريد العوائل، بل أدعو لحل واقعي لمن لا سكن له، ومعاقبة من يتضح امتلاكه سكنا، وذلك لن يكون مالم تستند الاجراءات الى قاعدة بيانات دقيقة يمكنها التمييز بين الاثنين، هل لدينا بيانات بمثل هذه المواصفات يستعصي على الفاسدين والمتنفذين اختراقها ؟
نأمل بأن تشغل العوائل الفقيرة أولوية في تفكير الحكومة من حيث تخصيص الأرض والقروض الملائمة لبنائها، بخاصة وان هناك حاجة ماسة لاستحداث مدن جديدة سواء في العاصمة او المحافظات لفك الاختناقات السكانية، وهذا من وظائف الدولة التي يجب القيام بها قبل مطالبة الناس بأداء الواجبات، لا يمكننا المحاسبة على التقصير بالواجبات قبل الحصول على الحقوق، ضمان الحقوق يُشعر الناس بالمواطنة.
وبها يحرصون على صيانة املاك الدولة وعدم التجاوز عليها بوصفها ملكا عاما وليس ملكا للحكومة وهو الشعور الذي ساد طوال عمر دولتنا الحديث، فجل الظواهر السلبية التي نكابدها هي حصيلة هذا الشعور، ذلك ان السلوكيات مهما كانت طبيعتها تقف ورائها عوامل معنوية، فاذا أردت تشارك المواطنين مع الأجهزة الحكومية في الحفاظ على البيئة، عليك ان تنمي بدواخلهم الشعور بالانتماء الوطني قبل أن تعول على القانون.
والا فنحن ملتزمون بالقانون طالما هناك رقيب، وبغيابه نفعل ما يضمن مصالحنا وان كان في ذلك تخريبا للدولة، ان تعزيز الانتماء الوطني يخلق ذلك الرقيب، فالبلدان المتقدمة ما بلغت تحضرها بالقوانين فحسب، بل بالإنسان المستنير، ان اعمار الانسان يقضي على ثقافة الحواسم التي صار لها نماذج بارزة في أعلى هرم الدولة قبل قاعدته.
اضف تعليق