q
الوضع الذي يكون فيه المجتمع بأمس الحاجة إلى المؤسسات التي تعنى بشؤون السلم، وذلك لإعادة ترميم النسيج المجتمعي المتمزق، وحماية السلم الأهلي، وصيانة اللحمة الوطنية، ومن أجل تخطي مرحلة الفوضى، وتثبيت الاستقرار الاجتماعي، ولتكوين ثقافة مضادة للحرب، ونابذة للعنف، فأين مثل هذه المؤسسات في المجال العربي...

مرت على العالم العربي في تاريخه المعاصر، سلسلة من الحروب على اختلاف أنماطها القصيرة والطويلة، الداخلية والخارجية، الإقليمية والدولية، وظلت هذه الحروب تتفجر بين وقت وآخر، وما زالت تشتعل في أكثر من مكان، وبشكل يظهر فيه المجال العربي وكأنه منطقة نزاعات وحروب لا تتوقف.

إلى جانب هذه الحروب، مرت على العالم العربي كذلك موجات متتالية من العنف ظلت في حالة تزايد وتصاعد ولم تتوقف، وكأننا ننتمي إلى منطقة تقع على خط يمكن وصفه بخط العنف، قياسا على ما هو معروف جيولوجيا بخط الزلازل، أو كأننا ننتمي إلى منطقة توطن فيها العنف ولم يعد يبارحها، أو أنها منطقة باتت بحكم الجغرافيا والتاريخ من السهل أن تتولد منها وفيها نزعات العنف.

الأمر الذي يلفت النظر إلى طبيعة هذه البيئة بنية ومكونات وتراثا وتاريخا، وضرورة اخضاعها لعملية التشريح البنيوي الجذري والشامل، وتطبيق أدوات وخبرات ومنهجيات العلوم الاجتماعية الإنسانية كافة، على أمل إحداث تغيير في بنية هذه البيئة، وتحويلها من بيئة لها قابلية توليد وإنتاج العنف، إلى بيئة لها قابلية توليد وإنتاج السلم.

وبتأثير هذا الوضع أصبحت ما من دولة في المنطقة العربية إلا وذاقت ويلات الحرب، أو وصلتها شرارتها، أو تأثرت بها بصورة من الصور، والدولة التي سلمت من ويلات الحرب، لم تسلم من ويلات العنف الذي ضرب العالم العربي وامتد ما بين جغرافيته طولا وعرضا، الوضع الذي يفترض منه أن ينبه وبشدة على فكرة السلم، واستحضار هذه الفكرة وجعلها في منزلة الحاجة والضرورة، فهذه هي الوضعيات التي تنتعش فيها عادة وتزدهر فكرة السلم.

ولا شك أن هناك تمايزا واضحا في طبيعة إدراك هذه الفكرة على مستوى النظر، وفي طريقة التعامل معها على مستوى العمل، ما بين الدولة التي ذاقت ويلات الحرب أو يلات العنف، وبين الدولة التي لم تذق لا ويلات الحرب ولا ويلات العنف.

لكن السؤال، مع كل هذه السلسلة من الحروب التي لم تنته، وهذه الموجات المتتالية والمتصاعدة من العنف التي لم تتوقف، لماذا لم تنتعش فكرة السلم وتزدهر في المجال العربي؟

أمام هذا السؤال، يمكن الإشارة إلى ثلاث صور تظهر فيها عدم انتعاش فكرة السلم في النطاق العربي، هذه الصور هي:

الصورة الأولى: تتصل بعالم الأفكار، من هذه الجهة ما زالت فكرة السلم ليس فقط لا تحظى بالمكانة والمنزلة الراجحة والمتفوقة، وإنما هي من الأفكار التي ما زالت متوارية عن الأنظار، ولا يجري التنبه لها بالقدر الكافي، وأكثر من ذلك فهي في نظر البعض من الأفكار التي هي موضع جدل وشك ومحاججة.

إلى جانب ذلك هناك من يظهر الحذر والخشية من هذه الفكرة، ويتعامل معها بطريقة ملتبسة تقلب صورتها، وتحرف ماهيتها، وتسلب جاذبيتها، وتعطل فاعليتها، وتكوّن حولها كتلة من الانطباعات والظنون التي تحجب الرؤية عن فكرة السلم، مع أن الحاجة إليها ماسة لإطفاء الحرائق المشتعلة في المنطقة العربية.

الصورة الثانية: تتصل بعالم المؤسسات، من هذه الجهة فإن المؤسسات التي تعنى بشؤون السلم وتحمل هذه الصفة، وتعبر عن هذه الماهية، وتسلك هذا الدرب، تكاد تكون غائبة لا وجود لها ولا أثر، مع شدة الحاجة إليها، الحاجة التي لا جدال عليها ولا نزاع في ظل هذه الحروب المتتالية، وموجات العنف المتصاعدة.

وإذا لم تظهر هذه المؤسسات في ظل هذه الحروب وموجات العنف فمتى تظهر، وهل يصح أو يعقل أن تمر حرب على مجتمع، ولا تظهر فيه وتتشكل ليس مؤسسة واحدة فحسب تعنى بشؤون السلم، وإنما مؤسسات لا حصر لها!

وهل يصح أو يعقل أن تمر مثل هذه الموجات المتتالية والمتصاعدة والمرعبة من العنف في مجتمع ولا تظهر فيه وتتشكل مثل هذه المؤسسات؟ فهذا الوضع ليس طبيعيا وليس منطقيا على الإطلاق، ويكشف عن خلل مزدوج له علاقة بعالم الأفكار من جهة، وبعالم المؤسسات من جهة أخرى.

وما هو واضح أن الحروب الداخلية لها تداعيات ومفاعيل خطيرة، منها تمزيق النسيج المجتمعي، وتدمير السلم الأهلي، وتفتيت اللحمة الوطنية، وأما موجات العنف فهي تؤدي إلى نشر حالة من الفوضى والاضطراب وعدم الاستقرار.

الوضع الذي يكون فيه المجتمع بأمس الحاجة إلى المؤسسات التي تعنى بشؤون السلم، وذلك لإعادة ترميم النسيج المجتمعي المتمزق، وحماية السلم الأهلي، وصيانة اللحمة الوطنية، ومن أجل تخطي مرحلة الفوضى، وتثبيت الاستقرار الاجتماعي، ولتكوين ثقافة مضادة للحرب، ونابذة للعنف، فأين مثل هذه المؤسسات في المجال العربي؟ والحاجة إليها ما زالت قائمة ولم تتوقف أو تنتهي.

الصورة الثالثة: تتصل بعالم الأشخاص، من هذه الجهة نتساءل أين هم دعاة السلم الذين يعرفون بهذه القضية، ويخلصون لها ويشتهرون بها في المجال العربي؟ وهل عندنا دعاة سلم وسلام أم عندنا دعاة حرب وقتال؟

وطالما تساءلت لماذا ظهر غاندي في الهند الذي يضرب به المثل في تجسيد السلم ذاتا وسلوكا وخطابا ونهجا ولم يظهر في العالم العربي أو الإسلامي؟ ولماذا ظهر مارتن لوثر كينج في أمريكا مدافعا خلاقا عن الحقوق المدنية للسود هناك ومجسدا نهجا سلميا بديعا ولم يظهر في العالم العربي والإسلامي؟

ولماذا ظهر نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا الذي نزع من نفوس المواطنين البيض الشعور بالخوف، ونزع من نفوس المواطنين السود الشعور بالانتقام وقاد بلده إلى بر الأمان وكسب احتراما قل نظيره في العالم، ولم يظهر في العالم العربي والإسلامي؟

هذا هو واقع الحال، ويبقى السؤال: متى تزدهر فكرة السلم في المجال العربي؟

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة
http://www.almilad.org

اضف تعليق