ان الجهل البيئي الذي يسود المجتمع العراقي، يجعل أصحاب القرار امام مسؤولية كبيرة ومفهوم جديد للتحديات التي تواجه البشرية، فلم تعد الأمية مصطلحا يقصد به أمية القراءة والكتابة بقدر ما يقصد به امية المعرفة والسلوك والخلق، فهناك من لا يعرفون القراءة والكتابة لكنهم حكماء قادرون على التعامل مع مجتمعاتهم بصورة حضارية...
اين ما تسير ترى اكداس النفايات تتوسط بعض الطرقات العامة، ولا يخلو المشهد من بعض التناقضات والمناظر المحزنة، ترى الشوارع غير منتظمة، والمناطق لا تخضع لتخطيط عمراني يدلل على الاهتمام بالجوانب الجمالية التي تتوفر عادة في المدن، وفي النهاية تبين هذه اللوحات المختلفة حقيقة الامية البيئية التي تستشري يوم بعد آخر.
اتحدث عن العراق تحديدا الذي تعاني فيه الأنظمة البيئية من اختلال واضح وعلى مستويات مختلفة، ونتيجة لعوامل متعددة ومترابطة وصلت الحالة بالبيئة العراقية الى مديات خطيرة تنذر بشيء من التراجع بالوعي البيئي لدى المواطنين، وقد أسهمت بذلك الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي خلفت كم من الفوضى والاعتداء على البيئة.
ما يعزز عدم الاهتمام بالقطاع البيئي هو اختفاء العلاقة التكاملية بين الفرد والأنظمة القائمة، فلا يوجد تخطيط بيئي في عموم البلاد يزاوج ويراعي حقوق الانسان وعدم تجازوها، اذ لا تزال الاعتبارات الإنسانية غائبة عن اذهان اغلب المتحكمين في المسار الاجرائي.
ومن ملامح التخبط والتشتت البيئي الحاصل في الآونة الأخيرة، هو انتشار الاحياء السكنية العشوائية المخالفة للتخطيط العمراني الحديث، الذي يجب ان يُطبق وتخضع له اغلب المدن، وإجبار المواطنين على الالتزام بها عبر فرض قواعد وقوانين صارمة تحد الى حد ما المخالفات القانونية، وعدم الاهتمام بالتخطيط الحضري.
العشرات من الاحياء السكنية الجديدة حلت ضيفا ثقيلا وغير مرغوب فيه في المناطق الزراعية، وقد أدت هذه الممارسات الى تقليل المساحات الخضراء وتقليص نسبة الأراضي الزراعية المحاذية للمدينة، وبالتالي يتولد نوع من الارباك البيئي وخلل في المنظومة الهوائية التي تتعرض الى التلوث المستمر.
شحة المساحات الخضراء، وتحويلها الى مناطق سكنية مجردة، تخلق عدم توازن حقيقي بين مسببات التلوث البيئي وعوامل التنقية الطبيعية، المتمثلة بالأشجار والاحزمة الخضراء التي تعمل كمصدات تمنع تغلغل الاتربة والاشياء السامة الى مداخل المدن التي غالبا ما تكون تحت سطوة عوامل عديدة تمنع اجوائها من التمتع بالنقاوة.
ومن هذه العوامل والاخطاء المتكررة هي زحف المصانع والمعامل الإنتاجية على المناطق السكنية، وتداخلت في كثير من الأحيان مع المنازل، وبالتالي أصبحت هذه المرافق بواعث للمخاطر والغازات السامة التي تخلف اعداد غير منطقية من المرضى والمصابين بشتى الامراض الخطيرة والمعدية والمزمنة في الوقت نفسه.
وأثبتت العديد من المؤشرات الموضوعية ان التشوه الحاصل في البيئة المجتمعية، جاء نتيجة عدم إدراك القائمين على المشروعات ذات الملكية الشخصية بماهية المخاطر التي تحدثها هذه التيارات الهوائية الملوثة، إضافة الى ذلك ضعف المراقبة القانونية وتفعيل الموانع الرسمية من تشييد هذا النوع من الأبنية قرب المناطق السكنية.
لكل داء دواء كما يقال ولتجاوز مشكلة الأبنية الصناعية الملاصقة للبيوت، من الاجدر التفكير والتعامل مع الأمية البيئية مبكرا فهو الحل الجذري لمثل هذه المشاكل، ويأتي من بين الحلول الناجعة والمتماشية مع روح العصر، هو تحديد وتخصيص مكان محدد بعيد عن مراكز المدن لبناء المرافق الصناعية والخدمية، لتجنيب الافراد شر مخاطرها.
ان الجهل البيئي الذي يسود المجتمعات الشرقية والمجتمع العراقي على وجه التحديد، يجعل أصحاب القرار امام مسؤولية كبيرة ومفهوم جديد للتحديات التي تواجه البشرية، فلم تعد الأمية مصطلحا يقصد به أمية القراءة والكتابة بقدر ما يقصد به امية المعرفة والسلوك والخلق، فهناك من لا يعرفون القراءة والكتابة لكنهم حكماء قادرون على التعامل مع أنفسهم وما حولهم من مكونات بيئتهم ومجتمعاتهم بصورة حضارية راقية يفتقدها الكثير ممن يقرأون ويكتبون الا انهم اميون بمقاييس أخرى.
من الضروريات زيادة الوعي البيئي وتحسين تعامل المواطنين مع الجهات المختصة لشيوع ظاهرة النظافة والحفاظ على البيئة، فكم نحن اليوم بحاجة الى عدم رؤية من يرمي النفايات في الأنهر الجارية وتلويثها الى جانب وضع مبازل المياه الثقيلة التي تخلف العديد من الامراض.
هذه أبرز المشكلات التي تواجه القطاع البيئي في البلاد، ولا يزال من يعتبر الحديث بهذه الجوانب نوع مع أنواع قتل الفراغ والاهتمام بالمسائل الثانوية متجاهلين الأبرز من الأشياء التي تمس حياة الافراد، فلا يمكن ان يتحقق الرقي في المجتمع على المستوى البيئي دون معالجة المشاكل الأساسية بأساليب علمية تجذب الكبير قبل الصغير، والنظر الى البيئة على أنها حياة أمة ومستقبل الاجيال ولا رفاهية من دونها.
اضف تعليق