يقول المثل (لا فرحة من غير صحة)، فالعافية نعمة منسية، لا يتذكرها المرء الا عند فقدانها. وبفقدانها تتلاشى البسمة وتختفي الفرحة، وفي بلادنا التي يشهد نظامها الصحي تدهورا قد لا يكون له مثيلا، ومن مظاهره نمو متسارع في عدد الصيدليات وكثرة لافتة في عيادات طبية تكتظ بالمراجعين، وشكاوى مستمرة...
أتوقف كثيرا أمام الأمثال، وحاشاكم من الخطأ اذا قلتم: انك مغرم بالأمثال، كغرامك بالهرم الرابع في مصر، وأقصد كوكب الشرق السيدة ام كلثوم، تسحرني بعض الأمثال، وتلهمني العديد من الأفكار، لذلك غالبا ما ترد في مقالاتي او عند تبادلي أطراف الحديث مع أحدهم، من ميزاتها انها عابرة للجغرافيا ومنتهكة لجميع السيادات، كما انتهك الاعلام الالكتروني سيادة الدول ودخل البيوت من جميع منافذها، حتى لم تعد قادرا على معرفة أين يتجول أبناؤك، وفي أي فضاء يبحرون، فما عاد للوالدين سيادة بعد الآن، وما بقي منها لا يعدو أن يكون شكلا ام الجوهر فنخرته مواقع التواصل الاجتماعي كما تنخر الأرضة الجدران، فليبدل الآباء طريقة متابعتهم لما يفعله الأبناء، والا ستسحقهم سنابك خيل زوكربيرغ.
الأمثال صالحة لكل زمان ومكان بصرف النظر عن اختلاف الثقافات وتباين الأجناس، وعصية على التشكيك، لذا غالبا ما نستعين بها لدعم أحاديثنا واقناع محاورينا بمضامينها، فلا اقناع من غير شواهد وأدلة وأرقام، والأمثال جاهزة لمثل هذه الوظيفة، فعندما تقول: (حاميها حراميها) او (ودع البزون شحمة) فأنك بذلك تقول الكثير من المعاني بالقليل من الكلمات، ولو أردت ايضاح هذه المعاني بالتطبيق على بعض السياسيين لاحتجت ساعات متواصلة من الكلام، فاختصر قولك بمثل واسترح.
ومن سمات الأمثال متانة السباكة ونقاوة العبارة، فالزمن شذب جملها وصقل عباراتها، فما عاد فيها زائد من الكلمات، لكل مفردة دلالة لا تقبل التأويل، كما التواصل عبر اللهجة العامية، اذ يُهمل الفائض من الكلمات، وهكذا هي لغة الأمثال تخلو مما لا تقتضيه الضرورة.
ومن الأمثال المتداولة في البلاد التي وُصفت منذ طفولتنا بأنها سلة الغذاء العربي، أي السودان التي تعصف بها حاليا بقايا ريح ما أسموه بالربيع العربي، فلم نذق شيئا من تلك السلة، فمنذ (اللآت) الثلاثة وضعت السودان في وجه المدفع مثلما وضع عراق ليلى الذي لا يبدو له شفاء. يقول المثل السوداني (لا فرحة من غير صحة)، فالعافية نعمة منسية، لا يتذكرها المرء الا عند فقدانها. وبفقدانها تتلاشى البسمة وتختفي الفرحة.
وفي بلادنا التي يشهد نظامها الصحي تدهورا قد لا يكون له مثيلا، ومن مظاهره نمو متسارع في عدد الصيدليات وكثرة لافتة في عيادات طبية تكتظ بالمراجعين، وشكاوى مستمرة من عدم قدرة نظامنا على سد حاجتنا، فتخيل نوع الفرحة التي نرفل فيها، فمن أهم معايير السعادة أن ينعم الناس بالصحة والعافية، ولا أظن عراقيا لا يعاني مرضا عضويا او نفسيا، وأقلها دوامة القلق التي ندور في ثناياها.
لا أدري لِمَ نظرة المعنيين لنظامنا الصحي أحادية الجانب على أهمية هذه النظرة كبناء المستشفيات وتوفير الأدوية وتهيئة الأجهزة والمستلزمات الحديثة وغيرها؟، لكني أرى ان المدخل لبناء نظام صحي رصين يكمن في البيئة، فعندما تتحسن البيئة تقل الأمراض، فكيف تقل الأمراض اذا كانت المدن صحاري قاحلة يندر أن تشجر او تزرع جزراتها او تُحاط أطرافها بالأحزمة الخضراء، وكيف يتحسن الوضع الصحي اذا كانت العائلة حائرة في البحث عن متنفس لها، لانعدام المتنزهات الحقيقية التي تتناسب مساحاتها مع الكثافة السكانية للمنطقة، وتتوافر فيها سبل الراحة والاسترخاء وتبديد الملل واستعادة الطاقة ؟، لذلك لابد من الاستثمار في البيئة قبل الاستثمار في الأبنية، اما طريقة الاستثمار فهذا ما يجب أن يفكر به المعنيون، والأمر نفسه ينطبق على ادارة البيئة التي يجب أن تفكر في كيفية اشاعة ثقافة الاهتمام بالبيئة، فليس لنا من البيئة سوى دوائرها ووزاراتها التي يستحدثها نظام المحاصصة ليس للعناية بالبيئة، بل لتحقيق التوازن الطائفي في الحكومة، فلا فرحة من غير بيئة نظيفة، البيئة سبب كارثتنا الصحية (ان كنتم تفقهون)، وأقصد الذين تعرفون، وأعذروني عن التسميات.
اضف تعليق