يكفي أن نتصور افراداً نجحوا في لجم الغرور، والتكبر، وعبادة الذات في نفوسهم ممن هم في الجامعة والسوق والمزرعة والمعسكر وفي كل مرافق الدولة ومؤسساتها، بما يعني أن واقع الفساد، ومن ورائه؛ المفسدين عليهم أن يترقبوا سهام الإصلاح تأتيهم من كل حدب وصوب، وفي كل لحظة...
أن ينطلق إصلاح الواقع الفاسد على يد المتضررين منه من مختلف شرائح المجتمع، يمثل مؤشراً ايجابياً على قدرة هذا المجتمع وجماهير الشعب على تحقيق الآتي من مراحل التغيير الشامل، من تنمية وتطوير في المجالات كافة.
فنحن نسمع أن الاستعمار يُطرد بسواعد رجال التحرير، وتنفجر الثورات الجماهيرية بوجه الديكتاتوريات ثم تنتصر بعزيمة وإصرار وتضحيات هذه الجماهير، كما نسمع بأن مشاريع التنمية المستدامة، وإعادة البناء والإعمار هي الأخرى تنجز بجهود هذه الجماهير، وليس بجهود أناس يأتون من وراء الحدود.
ظهور الفساد في واقع بلدان تجاوزت محن الديكتاتورية والحروب والحرمان مثل؛ العراق يكشف عن خلل بنيوي لدى انسان ذلك البلد تجعله يكون أحد عوامل انتاج الفساد، بأشكاله المختلفة، ربما في بعض الاحيان دون شعور منه بما يفعل، ويحسب أنه يُحسن صنعاً.
لا نبتعد عن جذور المشكلة
يبدأ الحديث عن الإصلاح دائماً بعبارات الفروض لإلزام الآخرين بالعمل بالاتجاه الصحيح، بأن؛ لابد للسياسيين من تنظيف دوائرهم ومؤسساتهم من الفساد، ولابد للاقتصاد من النظر بعين العدل والانصاف الى الفقير والعاطل والعاجز، ولابد للميسورين من تجسيد مفاهيم التكافل الاجتماعي بالانفاق على الأرامل والايتام.
هذا النوع من الخطاب يجعل الجميع يحمل الجميع مسؤولية الواقع الفاسد! ولا أحد ينظر الى مرآة نفسه لينظر ما لديه من نزعات وقدرات وغرائز وسائر المكنونات النفسية المؤثرة بشكل مباشر على طريقة تفكيره وسلوكه، وأي خطأ بالتصرف بهذه المكنونات ينعكس سريعاً على الواقع الخارجي للفرد، ومن ثم على المجتمع والأمة بأسرها.
ولا أدلّ على هذا من ظاهرة الرشوة في مؤسسات الدولة، فالحقيقة المرّة تقول: إن الرشوة لها طرفين وليس طرف واحد؛ الراشي والمرتشي، وما نشهده من إحدى ظواهر الفساد لدينا لا يتحمله السياسي او العسكري باستلامه الرشوة لغرض التعيين، إنما يتحمل جانباً من الوزر؛ المواطن المندفع للحصول على مبتغاه بمختلف الطرق.
ولا نجانب الحقيقة اذا قلنا أن أبرز عامل لانهيار الحضارات والأمم السابقة كان في غياب المسؤولية الفردية ضمن حركة المجتمع، وهو ما نبّه إليه القرآن الكريم في عديد آياته الكريمة للاعتبار بما جرى على الأمم السابقة، وأبرز مثال على ذلك؛ قصة ناقة نبي الله صالح التي عقرها شخص واحد، فعمّ العذاب جميع قوم ثمود؛ صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً عندما سكتوا على الجريمة، بينما نلاحظ الإشارة الى أمة الاسلام في الخصال والصفات الفردية للمسلمين مثل {رحماء بينهم}، و{رُكعاً سجّداً}، أو {المؤمنون إخوة}، وغيرها المفردات الدالة على اصحابها، ثم جاءت التوصيات من النبي الأكرم والأئمة المعصومين بالتأكيد على ضرورة تكريس هذه الصفات في النفوس، والحذر من مغبة التفريط بها {فتفشلوا وتذهب ريحكم}، كناية عن التحول من أمة ناهضة ومتقدمة ونموذجية، الى أمة لا ترى منها الأمم الاخرى سوى الطقوس العبادية الخالية من الروح، والظواهر القشرية.
ولذا سلط العلماء والمفكرون الضوء على جذور نفسية للخطأ في منهج التفكير منها؛ الحب، وفقدان الثقة، والتسرّع.
فالحب؛ رغم أنه مفردة جميلة تداعب المشاعر الايجابية، بيد أنها في معظم الاحيان تنتج الاعتداد بالنفس، وعبادة الذات، ولأن فلسفة الحب هي تلبية ما يريده المُحب، فمن الطبيعي –والحال هكذا- أن يتعطل الفكر ويركن جانباً بوجود الحب للفكرة و الايديولوجيا، والعشيرة والعائلة، والشخص الرمز.
أما فقدان الثقة فهو الفيروس الذي يقضي على الأمل بامكانية التغيير، او الاستفادة من القدرات الموجودة، وإحلال المشاعر السلبية والنظرة السوداوية للأمور والحياة، محل النظرة الايجابية المتفائلة.
والتسرع في إصدار الأحكام تمكن صاحبها من "الايمان بالافكار الجاهزة دون تمحيص لمعرفة ما اذا كانت صحيحة أم لا، فهو يتهرّب من التأنّي والتحقق خشية أن تصيبه مشقة كبيرة في عملية التفكير من جديد حول تلك الافكار"، (المنطق الاسلامي، أصوله ومناهجه- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).
عندما نعرف أن جذور مشاكلنا ليست في المحاصصة السياسية، او التبعية للعواصم الاقليمية والدولية، ولا حتى في هدر المال العام والسرقات بالمليارات، نعم؛ ربما هي اسباب ثانوية، إنما هي في الجذور النفسية للمواطن الذي جاء بأشخاص لم يكونوا شيئاً مذكوراً قبل عام 2003، وجعل منهم الوزراء والرؤساء والمدراء، حينئذ تكون كل حركة احتجاجية، صغرت او كبرت في الشارع ذات تأثير مباشر وسريع على الواقع السياسي والاقتصادي الذي نريد إصلاحه وتغييره، لانها ستكون أكبر من الترضيات، والمساومات، ولا تبغي المصالح الآنية الخاصة لهذا او ذاك، بقدر ما ترنو الى الإصلاح العام وخدمة الجميع، وليس فئة أو شريحة معينة.
ولا أدلّ على ما نذهب اليه من ظاهرة الرشوة في مؤسسات الدولة، فهذه المفردة المنتجة للفساد في العراق –كما في معظم دول العالم- لا تقوم على قدم واحدة، إنما تستند على الراشي والمرتشي، إذ لولا الحالة التخادمية بين الطرفين، وتحديداً؛ المواطن، لما حصل المرتشي على دينار واحد، حتى الابتزاز الموجود، فهو يتغذى على حالات مرضية في النفس منها؛ الشعور بالضِعة والمهانة، وعند البعض الآخر؛ شعور بالاستعلاء وتحقيق المصالح الخاصة مهما كلف الثمن.
يكفي أن نتصور افراداً نجحوا في لجم الغرور، والتكبر، وعبادة الذات في نفوسهم ممن هم في الجامعة والسوق والمزرعة والمعسكر وفي كل مرافق الدولة ومؤسساتها، بما يعني أن واقع الفساد، ومن ورائه؛ المفسدين عليهم أن يترقبوا سهام الإصلاح تأتيهم من كل حدب وصوب، وفي كل لحظة.
اضف تعليق