احدى ركائز الفشل التي اصابت الدولة العراقية في مقتل، وجعلتها تعاني من تراجع واضح وانهيارات متوالية في بنيتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتعليمة وغيرها، هو اهمال الدولة ومؤسساتها لكامل الطاقات الشبابية وعدم الاهتمام بها او تقديم الدعم الكافي لها وفق بما يمكنهم من المشاركة الفاعلة في إدارة الدولة ومواردها...
يشكل الشباب في أي مجتمع العمود الفقري للقوى الناشطة على المستوى الاقتصادي والثقافي والفكري والسياسي، لأنهم عماد هذا المجتمع ومستقبله القريب، لذلك سعت الدول المتقدمة الى احتواء هذه الطاقة الهائلة من العطاء والقدرة والابداع ضمن قائمة طويلة من: النشاطات المتنوعة، والتعليم المكثف، والبرامج الخاصة، حتى يتسنى لهذه الدول صناعة جيل من القادة والعلماء والمفكرين والمثقفين القادرين على إدارة الدول ومؤسساتها وكافة القطاعات غير الرسمية الأخرى من جهة، تطوير العمل ومواكبة التحديث العلمي والابداعي من اجل الاستمرار في النجاح والتقدم.
لكن ما يحزن ويثير المواجع، إنك إذا تفقدت حال الشباب في البلدان العربية والإسلامية، رغم ان اغلب مجتمعاتها تعتبر من المجتمعات الشابة (لارتفاع نسب الشباب مقارنة بعدد السكان)، لوجدت انهم في اخر سلم الأولويات بالنسبة للدولة ومؤسساتها، وحتى بالنسبة للمنظمات والجهات الفاعلة غير الحكومية، الا بمقدار ما يمكن هذه الجهات من استغلال الطاقات الإنتاجية او الإبداعية لدى الشباب لصالحها.
في العراق، البلد الغني بموارده الاقتصادية ونسبة الشباب العالية مقارنة بعدد السكان الكلي الذي وصل الى (40) مليون مواطن، الا ان ذلك لم يشفع امام لغة الأرقام التي أظهرت ان البطالة والفقر والامية وغيرها، دمرت المجتمع العراقي وجعلته يتراجع الى الوراء بدلا من ممارسة دوره الطبيعي على المستوى الداخلي والخارجي بحسب الإمكانات الهائلة التي حباه الله (عزوجل) بها، والأرقام التي أصدرتها وزارة التخطيط العراقية اشارت الى وجود نسب:
- (64%) من السكان بعمر (15) سنة وأكثر، بينما يشكل عمر (25) وأكثر نسبة (43%)
- (16.5%) نسبة البطالة
- (24.6%) نسبة الامية بين السكان من عمر (10) سنوات وصعوداً
- (31.7) نسبة الفقر
- (12%) من سكان العراق يسكن في العشوائيات.
بالتالي يعيش العراق، حاله في ذلك، حال الدول المتخلفة او الفاشلة في تناقض غريب يجمع بين القدرة على النجاح والانحدار نحو الفشل، او إمكانية التقدم والتطور وبين التراجع والتخلف، وهو امر طبيعي بالنسبة لدولة لا تملك مقومات الحكم الرشيد والاستقرار السياسي والقدرة على مكافحة آفة الفساد والعمل على تطبيق القانون والنظام وتوفير الخدمات العامة بما يحفظ كرامة الانسان وحقوقه، رغم عقدين من الزمن على التحول في نظامها السياسي من نظام الحاكم الواحد (الديكتاتوري) الى النظام البرلماني (الديمقراطي).
ما يمكن قوله في هذا المجال، ان احدى ركائز الفشل التي اصابت الدولة العراقية في مقتل، وجعلتها تعاني من تراجع واضح وانهيارات متوالية في بنيتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتعليمة وغيرها، هو اهمال الدولة ومؤسساتها لكامل الطاقات الشبابية وعدم الاهتمام بها او تقديم الدعم الكافي لها وفق بما يمكنهم من المشاركة الفاعلة في إدارة الدولة ومواردها، وتحفيز مختلف القطاعات الحيوية بنشاطاتهم وابداعاتهم الشبابية المختلفة، وتطوير مهاراتهم الفكرية والعلمية والفنية، وكل هذا يتم وفق رؤية علمية قائمة على الدراسات والأبحاث والتجارب التاريخية والمعاصرة للشعوب والمجتمعات التي تمكن من صنع تاريخها الحضاري والعلمي بسواعد شبابها.
الإسلام الحنيف شدد على أهمية رعاية الشباب والاهتمام بهم وتطوير مهاراتهم وقدراتهم لتمكنهم من المساهمة في بناء بلدانهم وعمرانها، وكما قال المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي حيث: "ينظر الإسلام إلى الشباب على أنهم ذخائر الأمة، وخط الطاقة المتنامية فيها، وبناة الحضارة، ورواد الفتح الإسلامي، ولقد اهتم الإسلام بدور الشباب كثيرا"، وقدد حدد السيد الشيرازي (رحمه الله) سببين مهمين لهذا الاهتمام باعتبار:
أولاً: يمتاز الشباب بفطرة سليمة نقية لم تتلوث بعد بالذنوب وباقي الانحرافات الأخرى، مما يساعد على تنظيم وتعميق علاقتهم مع الله (عزوجل)، وبالتالي سوف يكونون عناصر مخلصة وفعالة في الأمة.
ثانياً: إن مرحلة الشباب مرحلة جديدة مفعمة بطاقات هائلة، وهي بداية تنامي الآمال والأهداف، يرافقها حماس وفعاليات ونشاطات ذهنية وجسدية عظيمة، لا يمكن الاستهانة بها، فيأتي الإسلام لينظم الفعاليات والنشاطات، ويجعلها تصب في خدمة الأهداف، ومن ثم يقرر الإسلام الأهداف الجيدة والنافعة من غيرها، وهكذا يأخذ بيد الشباب إلى طريق نجاحه في الدنيا والآخرة.
وقد حدد الامام الشيرازي خارطة واضحة للتعامل مع الجيل الصاعد وكيف يمكن احتواءه وتطويره بما يخدم الشباب والمجتمع حين قال: "لا يخفى أن سلوك الشباب يختلف عادة عن سلوك الكبار، فلابد أن ننظر لهذا الأمر من زاويتين:
الأولى: كيف نتعامل معهم، وأي طريق نسلك للدخول في عالمهم؟
الثانية: أن نلاحظ سلوك الشباب فيما بينهم، ثم نقوم بسد الثغرات عندهم على الصعيد الفكري وغيره، وتصحيح ما هو خطأ في حياتهم.
وأضاف (رحمه الله): "بالنسبة للزاوية الأولى: يقول مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا تقسروا أولادكم على دابكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم)، حيث يؤكد إمامنا على نوع المعاملة مع أبنائنا الشباب، لأنهم يعيشون في فترة زمانية غير التي عاش فيها الآباء، حيث التغير طرأ على كل شيء بدء من الزي والمأكل وشكل المسكن، مروراً بوسائل العلم والعمل، وانتهاء بتغير الألفاظ وظهور العادات والتقاليد الجديدة، والتي لا تنافي، بالطبع، الخط الإسلامي العام، وعلى ضوء ذلك، فلابد أن يتغير أسلوب الحوار معهم أيضا، وإلا فلا معنى أن تتغير كل مظاهر الحياة ثم لا نغير حوارنا مع الشباب".
والتغيير يكمن في طريقة التعامل مع هذا الجيل: "فينبغي أن نفتح آفاقاً رحبة مع أبنائنا الشباب، ونكثر من بناء الجسور التي تربطنا بهم فنلتقي معهم عبرها في كل آن، ونبتعد عن كل حالة أو أسلوب من شأنه أن يشنج العلاقات معهم، وينفرهم عنا، لاسيما بعض الأساليب الديكتاتورية، حيث يمارس الأب أو غير الأب دور التسلط على الشباب، انطلاقا من قاعدة احترام الكبير، فيسيء إلى الشباب من خلال ما يتمتع به من مقام الأبوة أو غيره، فنلاحظ في أجواء الديكتاتورية مظاهر الضرب، أو الصياح، أو كم الأفواه، أو التحجيم لشخصيات الشباب، وإلغاء دورهم في الحياة، وغير ذلك مما هو بعيد كل البعد عن الإسلام، وحينئذ سوف نتوقع أحد الأمرين من الشباب: إما أن يصبحوا ديكتاتوريين في حياتهم، فيمارسون ظاهرة التسلط متى ما سنحت لهم الفرصة، فينعكس ذلك حتى في علاقاتهم مع الناس، مما يجعلهم أفراداً غير مرغوب فيهم، ولا ينسجم معهم أحد".
أو يفلت الشباب من هذه القبضة الحديدية، فيكون له رد فعل معاكس، مما يؤدي بهم إلى ممارسة كل ما حرموا منه على جميع الأصعدة، فقد كانوا يعانون من سحق لشخصياتهم، فيبدؤون بإظهار شخصياتهم عبر مختلف الوسائل والطرق، وعندها تبدو عليهم ظاهرة (حب الظهور)، والرغبة في الشهرة، فتدب في نفوسهم أمراض الكبر والعجب والهوى.
والصحيح ان: "هناك أساليب لطيفة وجذابة تتلاءم مع روح الشباب، وتنسجم مع منطقهم وعواطفهم، فهذه هي الأساليب التي يلزم أن نتعامل بها معهم، وعلينا أن نخلق أجواء للحوار تنفتح فيه قلوب الشباب معنا، وتنمو قدراتهم، ونعلمهم على أسلوب الإصغاء، وإعطاء الجواب، والتفكير بتأمل، واحترام الآراء والأشخاص، لكي يصبح رصيدهم الروحي أكبر من كل رصيد آخر، فيتعاملوا مع الناس من منطلق المعنويات الإنسانية، فنحافظ بذلك على سيرهم الاجتماعي وتفكيرهم".
ثم علينا أن نوضح لهم معنى الأهداف، والآمال، وما هو دور المبادئ في حياة الإنسان، وكيف يجب أن تكون الأهداف والمبادئ شريفة ومقدسة، لكي تكون حركة الإنسان نحوها حركة لها معنى، وعندها يضحي الإنسان بروحه من أجل مبادئه فيكون لتضحيته رصيد عند الله، ولا تذهب سدى، إلى غير ذلك مما ينظم توازن الشباب بين أفكارهم وحركاتهم في الحياة على صعيد الأهداف ومقدماتها.
اما الزاوية الثانية التي ينبغي النظر إليها في دراسة شخصية الشباب هي: "أن نلاحظ سلوك الشباب فيما بينهم، ثم نرسم تلك البرامج المناسبة لشخصيتهم ونقوم بسد الثغرات عندهم، وهنا يجب علينا أن نتحرك على مستويين أيضاً:
الأول: التعايش مع الشباب وعدم الابتعاد عن عالمهم المرح.
والثاني: وضع الحلول العملية الميدانية والبرامج التي تطورهم وتوجب سعادتهم الدنيوية والأخروية".
الخلاصة تعطيك انطباع إيجابي بان هناك العديد من الحلول والفرص التي يمكن استغلالها من اجل تحويل الشباب من جيوش كبيرة من العاطلين عن العمل الى طاقة هائلة من النشاط الاقتصادي والابداعي
ومن أجيال تعاني من الازمات الفكرية والأخلاقية والاجتماعية الى شباب واعي ومثقف ومؤمن بقدراته، قادر على تحقيق النجاح امام مختلف التحديات والمشاكل.
ومن افراد يعانون الإحباط والضياع بعد ان استسلموا لقدرهم ومصيرهم الى شعلة من الحماسة والقدرة على التغيير والإصلاح.
وهذا لا يتم الا عبر علاقة تكاملية بين الجميع (دولة/ مؤسسات/ افراد/ مجتمع/ منظمات/ نخب) فالكل مطالب بدور في سبيل تحقيق الهدف في وصول الشباب الى المستوى الذي يمكنهم من صنع المستقبل الأفضل لهم وللأجيال التي تليهم.
اضف تعليق