فالرهان أولاً وأخيراً وفي مختلف المشروعات، ينبغي أن يكون على الداخل الوطني والعربي. وانه آن الأوان بالنسبة إلى الدول العربية جميعاً، أن تعيد النظر في مستوى اهتمامها النوعي بشعوبها ومجتمعاتها. وذلك لأن الخير كله مرهون إلى قدرتنا جميعاً على تطوير هذه العلاقة وفق منهجية جديدة، تتجاوز كل حالات...
تتلاحق الأحداث والتطورات السياسية والاستراتيجية في المنطقة، فالمنطقة برمتها وعلى الصعد كافة، تمر بمنعطف خطير وظروف حساسة ودقيقة، وتتطلب قراءة عميقة وواعية لتداعياتها وأهدافها وآثارها القريبة والبعيدة، المرحلية والاستراتيجية، على الواقع العربي السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولعل من أهم القضايا التي تحتاج إلى إعادة نظر، هو طبيعة عمل المؤسسات العربية المشتركة.. إذ اننا نجد ان هيكلة هذه المؤسسات وطبيعة عملها وأدائها لا ترقى إلى مستوى الحديث أو التحدي الذي يواجه الواقع العربي.. بل في الكثير من الأحيان يكون طبيعة عمل هذه المؤسسات، احد أسباب الاختلاف العربي - العربي.
فبدل ان تتحول هذه المؤسسات إلى حاضن حقيقي لكل الأطراف والقوى العربية. تحولت وذلك لأسباب ذاتية وموضوعية إلى عبء على الكثير من هذه الأطراف والقوى العربية.. ونحن هنا لا نحمل المسؤولين المباشرين مسؤولية هذا الوضع، وانما نحمل مسؤولية كل الدول العربية لأنها هي التي صاغت عمل هذه المؤسسات وهي التي بيدها اضعافها أو تقويتها..
ووجود حالة ضعف وعجز بنيوي في جسم المؤسسات العربية المشتركة، هو من جراء التفكير العربي الفعلي الذي يتعاطى مع هذه المؤسسات، ويسعى بشكل أو بآخر أن لا تتعدى هذه المؤسسات الخطوط الحمراء التي وضعها النظام العربي الرسمي.
فالمؤسسات العربية المشتركة، ليست منفصلة في طبيعتها وأدائها وفعاليتها عن النظام العربي الرسمي، الذي يتشكل من مجموع العلاقات والمصالح بين الدول العربية بمختلف مؤسساتها وأنشطتها. فحينما يكون هذا النظام فاعلا وحيوياً، ستكون المؤسسات المشتركة كذلك. أما إذا عجز النظام العربي الرسمي عن القيام بدوره الاقليمي والدولي، فإن هذا العجز سيصيب أيضاً المؤسسات العربية المشتركة. ففاعلية المؤسسات العربية المشتركة مرهون إلى فاعلية النظام العربي الرسمي، لذلك فإن حالة العجز والسكون التي يشهدها العمل العربي المشترك، هو انعكاس طبيعي إلى عجز وسكون الواقع العربي برمته.
فالتطورات التي تشهدها المنطقة اليوم متسارعة وخطيرة، إلا ان الاداء العربي الدبلوماسي والسياسي لا يرقى إلى مستوى التحديات التي تطلقها هذه التطورات.. وردود الأفعال التي يقوم بها النظام العربي الرسمي، لا تمتلك امكانية التأثير النوعي في مجريات التطورات والتحولات..
ولعلنا لا نبالغ أو نجانب الصواب حين القول: انه في كل الأزمات العربية الكبرى في العصر الحديث، لم تتمكن مؤسسات العمل العربي المشترك، من القيام بدور حيوي وفعال في رد عدوان أو حل معضلة أو مشكلة سياسية أو تطوير علاقة اقتصادية وتجارية أو منع مشكلة عربية من الاستفحال والتفاقم وتتضح هذه الحقيقة في الأزمة العراقية الحالية.
حيث لم تتمكن هذه المؤسسات من التحكم أو المشاركة النوعية في معالجة هذه الأزمة. بل على العكس من ذلك تماماً، حيث إن الواقع العربي بأسره سيتأثر من أي تطور سياسي أو عسكري في العراق، إلا انه الطرف الاقليمي الوحيد الذي لم يتمكن ان يمارس دوره ووظيفته بمستوى التحديات والتأثيرات المحتملة.
فطبيعة عمل وصلاحية المؤسسات العربية المشتركة، لا يجعلها بمستوى الحدث أو التطور الذي تشهده المنطقة على مستويات عديدة.. لذلك نجد ان التأثيرات السياسية والنفسية والاقتصادية لكارثة الخليج الثانية فاعلة في المحيط العربي دون ان يتوفر مشروع عربي جدي وفاعل لمعالجة كل هذه التأثيرات التي أضعفت الواقع العربي كله.. وهذا الكلام ينطبق وبصورة عميقة فيها يرتبط بالمسألة الفلسطينية ومجريات الصراع العربي - الصهيوني.. حيث يمارس الكيان الصهيوني كل صنوف القتل والتدمير والتهجير، والعالم العربي بمؤسساته وأطره الوطنية والقومية تتفرج وتتعامل مع هذه الوقائع وكأنها نتيجة طبيعية لسوء الخيارات وعقمها التي تتبناها القيادة الفلسطينية، دون ان تكلف الدول العربية نفسها عناء البحث عن رؤية مشتركة وارادة قومية توظف كل الامكانات والقدرات المادية والسياسية للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني.
إننا أمام واقع مرير وعاجز، حيث إن كل تطورات المنطقة وتحولاتها المتسارعة، تجعلنا نعتقد اعتقاداً جازماً، أن مؤسسات العمل العربي المشترك، وذلك لعوامل موضوعية وذاتية مرتبطة بطبيعة العلاقات العربية وجوهر التحالفات السياسية والاقتصادية الاقليمية والدولية واتجاه الرهانات السياسية التي تعقدها هذه الدول، وحجم الصلاحيات والقوة التنفيذية التي توفرها الدول العربية لمؤسسات العمل العربي المشترك.. أقول أن هذه المؤسسات بوضعها الحالي، لا تستطيع ان تقوم بوظيفتها الاقليمية والقومية.. ويكفينا في هذا الاطار أن تقرأ البيانات العربية الرسمية ومقررات الاجتماعات على مختلف المستويات، لنكتشف حجم المسائل والقضايا التي تحولت إلى واقع ملموس.. فما ينقصنا هو الإرادة العربية المشتركة، التي تتمكن من ترجمة كل هذه الاتفاقات إلى حقيقة قائمة في الواقع العربي.. وذلك لأننا على هذا الصعيد نعيش مفارقة عجائبية، حيث لا يخلو اجتماع عربي من التأكيد على القواسم المشتركة وضرورة تطوير العلاقات العربية - العربية في مختلف المجالات.. وفي مقابل هذا التأكيد المتواصل، نجد ان واقعنا العربي ينحدر إلى المزيد من التجزئة والتشظي والخلافات العميقة التي تتعدى بعض الأحيان الجسد الرسمي لتصل إلى الجسد الشعبي.
لهذا كله ومن أجل وقف الانحدار العربي، ونتمكن ان نتحكم في راهننا ومستقبلنا والمشاركة النوعية والايجابية في شؤون العالم وتطوراته المتعددة، نحن بحاجة ان نعيد النظر في طبيعة عمل مؤسسات العمل العربي المشترك لا لكي نجلدها ونحملها مسؤولية كل الاخفاقات والأزمات، وانما من أجل ان نعيد صياغة دورها ووظيفتها بما ينجسم وحجم التحديات والتطلعات التي يحتضنها العالم العربي. ولابد ان يدرك الجميع، ان استمرار أوضاع المؤسسات العربية المشتركة على حالها يكلف الجميع على المستويات كافة، ويفاقم من أزمات الواقع العربي ومشكلاته، ويساهم في تباعد الخيارات والسياسات، مما يوفر لأعدائنا الفرصة السانحة للانقضاض علينا والاستفراد بنا.
إن الاسئلة الكبرى التي تطرحها تطورات المنطقة، تدفعنا إلى الإيمان العميق بضرورة تطوير مؤسسات العمل العربي المشترك وصياغة دورها الاقليمي والقومي من جديد، وتوسيع مساحة عملها وفعلها وتذليل كل العقبات التي تحول دون ممارسة دورها المأمول.
وإن هذا الأمر يتطلب ان تكون هذه المؤسسات، هي وعاء تشكيل الإرادة العربية المشتركة، وصياغة الاستراتيجيات والعمل على تنفيذ الممكن منها في أسرع وقت.
إننا نعيش في عالم لا يرحم، ولا مكان فيه للضعفاء، ولذلك إذا أردنا ان يكون لنا موقع تحت الشمس ونتمكن من الدفاع عن قضايانا العادلة، وانجاز تطلعات وطموحات شعوبنا، نحن أحوج ما نكون اليوم إلى تفعيل المؤسسات العربية المشتركة.
إستعادة الاعتبار
وفي اطار إستعادة الاعتبار إلى المؤسسات العربية المشتركة على الصعيد الوطني والاقليمي والقومي، لابد من التأكيد على النقاط التالية:
1- من الضروري بيان حقيقة سياسية ودولية وإنسانية، وهي ان استمرار حالة التجزئة والتشظي والتشتت العربي، يكلف جميع الدول العربية الكثير من الاثمان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدولية. إذ أن العالم الإنساني اليوم وبكل شعوبه وأممه يتجه بخطى متسارعة نحو التكتل والاندماج وزيادة وتأثر التعاون والتضامن. وإننا كعرب إذا لم نخط الخطوات النوعية في هذا السبيل، فإن هذا يعني على المستوى العملي المزيد من الضعف والعجز وضياع الفرص والحقوق.
لذلك فإن أمن الدول العربية الحقيقي، مرتبط بشكل مباشر بمستوى التضامن والتعاون العربيين. واننا كفضاء عربي، نمتلك على المستوى النظري كل العوامل والاسباب والحاجات، التي تدفعنا إلى تكثيف التعاون وزيادة وتيرة التضامن وتعميق المصالح المشتركة. لذلك فإن قدرتنا على الدفاع عن أمننا القومي ومكاسبنا السياسية والوطنية والتأثير في مجريات الاحداث العالمية، مرهون كل هذا إلى قدرتنا على تطوير العمل العربي المشترك.
وهذا التطوير بطبيعة الحال، لا يتحقق دفعة واحدة، وانما هو بحاجة إلى عمل متواصل ومتراكم، يتجه إلى تعزيز كل ما يفضي إلى المزيد من التفاهم والتعاون والتضامن في مختلف المجالات وعلى جميع المستويات.
2- ان تطوير مستوى التضامن والتعاون في الفضاء العربي، ليس مسؤولية الحكومات والمؤسسات الرسمية فحسب بل هو أيضاً مسؤولية الشعوب ومؤسساتها المدنية وأطرها الأهلية ، إذ أن هذه الجهات تتحمل مسؤولية رئيسية في هذا المجال. إذ بامكانها ان تخطو خطوات نوعية في سياق تعزيز مشاريع التعاون وتطوير مستوى التضامن بين الشعوب العربية.
لذلك نشعر بأهمية ان نوفر كل الاسباب والعوامل، لإطلاق مشروع الدبلوماسية الشعبية في الاطار العربي، الذي يستهدف تطوير العلاقة بين مؤسسات المجتمع المدني.
واننا نرى أن هناك آفاقاً عديدة، بالامكان استثمارها على هذا الصعيد. فما الذي يمنع ان تتوطد العلاقة بين مؤسسات المجتمع العربي السياسية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية، ولماذا لا تتطور العلاقة بين مؤسسات البحث العلمي والاعلام والثقافة في الفضاء العربي. وهكذا بقية المجالات والحقول.
فتطوير العمل العربي المشترك ، لا يتم إلا إذا تطور مستوى التضامن والتعاون بين الشعوب العربية. وإننا نرى ان الظروف الحالية مواتية لاطلاق مشروعات للتعاون والتضامن العربي على الصعيد المدني والمجتمعي.
إن أسئلة الواقع العربي وتحدياته الراهنة. تلزمنا بضرورة شحذ الهمم، وتعبئة الطاقات، وتعزيز الإرادة السياسية المتجهة صوب تطوير العمل العربي المشترك، وتذليل كل العقبات التي تحول دون زيادة وتيرة التضامن والتعاون العربيين.
وبكلمة: إننا نعيش ظروفاً استثنائية على مختلف المستويات، وهذه الظروف تستدعي منا جميعاً العمل النوعي والاستراتيجي، الذي يعيد ترتيب واصلاح البيت العربي على الصعد كافة.
صياغة الواقع العربي
والسؤال الأساسي الذي ينبغي أن نبحث عن إجابة عميقة له هو: ما العمل الذي يوفر لنا القدرة النوعية للحفاظ على مكاسبنا وإفشال مخططات الهيمنة.
تدفعنا وقائع المشهد السياسي العربي المعاصر، إلى القول إن هذا الواقع وحتى يخرج من محنه الراهنة ومآزقه القائمة، يحتاج إلى إحداث تحولات سياسية وثقافية ومجتمعية، تعيد صياغة الواقع العربي بما ينسجم وتطلعات الأمة وتحديات الواقع. ومن الضروري أن يدرك الجميع أن أخطار الصراعات القائمة والمحتملة في الفضاء السياسي العربي ينبغي ألا تكون حاجزة ومانعة إلى الأمل في المستقبل.. فحركة التاريخ كما أنها مشدودة إلى أسبابها وعواملها المباشرة، هي كذلك حركة غائبة بمعنى أنها تتطلع إلى المستقبل. وذلك لأنها حركة هادفة ولها علة غائبة متطلعة إلى الغد.
فالمستقبل لدى المجتمعات الإنسانية، هو أحد محركات النشاطات التاريخية. صحيح أن المستقبل معدوم فعلاً في تلك اللحظة، ولكنه يحرك من خلال الوجود الذهني الذي يتمثل فيه هذا المستقبل.
وهذا الوجود يجسد من ناحية جانباً فكرياً وهو الجانب الذي يفهم تصورات الهدف، ويمثل من جانب آخر الطاقة، الإرادة التي تحفز الإنسان نحو هذا الهدف وتنشطه للتحرك نحو هذا الهدف. وبالامتزاج بين الفكر والإرادة تتحقق فاعلية المستقبل ودافعيته للنشاط التاريخي على الساحة الاجتماعية.
لذلك فإن اشتداد أزمات الراهن، وتفاقم محنه، ينبغي ألا يفقدنا دورنا التاريخي كشعوب عربية، تمتلك فكراً يتجه صوب صياغة راهنها وبناء مستقبلها.
وإرادة مجتمعية تترجم الأفكار إلى وقائع والوعود إلى إنجازات. فالاستراتيجيات والمخططات الدولية تجاه مجالنا العربي ليست قدراً مقدراً، وإنما هي في جوهرها إرادة إنسانية تستهدف السيطرة على الآخرين.. وبإمكاننا نحن أن نقف أمام هذه الإرادة، ونفشل مخططاتها ونجهض كل الاستراتيجيات التي تستهدف الهيمنة والسيطرة.. ولعل من الأخطاء القاتلة والمميتة بالنسبة لنا نحن العرب، أن نتعامل مع السيناريوهات المتداولة لأوضاعنا العربية، باعتبارها حقيقة قائمة، ولا نمتلك ازاءها أي خيار وحول.. إن هذه العقلية وتأثيراتها العامة، هي التي تمكن العدو منا، وهي التي توفر له الإمكانية الحقيقية لإنجاز كل مخططات واستراتيجياته.
إن فقدان الإرادة العربية، القادرة على إفشال مخططات الأعداء، هي حجر الزاوية للوقوف الفعلي أمام كل الأخطار والتحديات التي تواجه المجال العربي اليوم.. وإننا نرتكب خطيئة تاريخية كبرى، حينما نتعامل مع تطورات الساحة وتحولاتها بعيداً عن إرادتنا المتجهة صوب هذه التطورات لتكييفها مع مصالحنا العليا، وهذه التحولات للحؤول دون تثبيت بعضها في واقعنا لأنها ببساطة ضد مصالحنا الحالية والمستقبلية. ولا بد أن نعلم أن إرادتنا للجمعية هي الفيصل في كل هذه الأمور والقضايا المطروحة على واقعنا وراهننا. فتوفر الإرادة العامة في مجالنا هي التي تدفعنا إلى تحسين الأوضاع العربية، وهي التي تغذي بذور التقدم والإصلاح، وهي التي توفر لنا الامكانية الفعلية للوقوف بحزم ضد مخططات الأعداء.
وإن غياب هذه الإرادة، هو الذي يجعلنا ساحة مكشوفة للأعداء، وهو الذي يشل قوى الإنتاج والإبداع عند المجتمع، وهو الذي يخرجنا من حركة التاريخ وميادين التقدم.
فالشك والارتياب بالاستراتيجيات الغربية تجاه مجالنا العربي، لا ينهيها ولا يدفع المخاطر والتحديات عنا. وحدها الإرادة المجتمعية العامة، الموصولة بالفعل الإصلاحي والتطويري المتكامل، هو الذي يحول دون تحقيق التصورات والاستراتيجيات الأجنبية على مجالنا العربي.
فلولا إرادة الشعب الفلسطيني وتضحياته المتواصلة، ودفاعه المستديم عن حقوقه ومقدساته، لتم تصفية القضية الفلسطينية منذ زمن بعيد، وحده الشعب الفلسطيني بجهاده وتضحياته وحضوره في ميادين النضال والفعل الحضاري، هو الذي حافظ على القضية الفلسطينية، وهو الذي أفشل كل المخططات الاستعمارية والصهيونية التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية. لذلك فإن إرادتنا وفعلنا الشامل هو حجر الأساس في مشروع مقاومة كل مخططات الهيمنة على منطقتنا وواقعنا. فليس غريباً على أعداء الأمة، أن يخططوا ويستهدفوا أمتنا في وجودها وثرواتها ومكاسبها وأمنها، ولكن الغريب هو أن نستسلم لهذه المخططات ونتعامل مع استهدافاتهم وكأنها القدر المحتوم.
فإذا كان للأعداء مخططاتهم الاستراتيجية، فإننا كأمة وكمجال سياسي ينبغي أن نبلور إرادتنا العامة باتجاه إفشال مخططاتهم، وسد الثغرات في واقعنا، وتطوير أوضاعنا على مختلف المستويات.
ما العمل؟
والسؤال الأساسي الذي ينبغي أن نبحث عن إجابة عميقة له هو: ما العمل الذي يوفر لنا القدرة النوعية للحفاظ على مكاسبنا وإفشال مخططات الهيمنة ومشروعات السيطرة التي تستهدفنا حاضراً ومستقبلاً.
1- تنقية المجال العربي من كل الشوائب والثغرات التي تضعف هذا المجال وتشغله عن أولويات البناء ومجابهة التحديات الكبرى. وذلك لأن المشكلات الداخلية بما تحمل من آثار وتداعيات ومخاطر، هي التي تشتت المجال العربي وتضعف موقفه الاستراتيجي، وتجعله مشغولاً بمشكلات عديدة، دون أن يمتلك الإرادة الكافية لإنهائها أو معالجتها. لذلك فإننا نرى أن من الأعمال الهامة التي ينبغي للمجال العربي أن يقوم بها في زمن هذه التحديات والتحولات، هي العمل وفق خطة واضحة ومشروع متكامل لتنقية أوضاعه وتطوير أحواله ومعالجة نقاط الضعف والسعي الحثيث لسد ثغرات المجال على المستوى الداخلي بحكمة ونفس طويل ومعالجات حقيقية.
وذلك لأنه لا يمكن مواجهة تحديات المرحلة إلا بسد ثغرات الداخل العربي وإصلاح أوضاعه التي تضغط عليه سلباً وتضعف موقفه من تحديات المرحلة. وتنقية المجال العربي من شوائبه ومشاكله ليست مسؤولية الدولة العربية فحسب، بل هي مسؤولية كل مكونات الأمة. إذ يتحمل الجميع كل من موقعه مسؤولية معالجة أوضاع الأمة الداخلية، حتى يتسنى للأمة بأسرها مواجهة تطورات المرحلة وتحولاتها المتسارعة. إننا كأمة لن نتمكن من مجابهة تحديات المرحلة، إلا بإصلاح عللنا الداخلية وتجاوز ثغراتنا الذاتية التي لها الدور المركزي في حالة الضعف والهوان التي يعاني منها المجال العربي.
2- إعادة ترتيب الأولويات الوطنية والقومية، وتجاوز كل أشكال الاعتماد المطلق على الغير والخارج، فالتطورات المتلاحقة توضح بشكل لا لبس فيه، أن الرهان الحقيقي لأي دولة عربية هو على شعبها ومجتمعها. وإن الشعارات والمشروعات التي تتجاوز المتطلبات الحقيقية للمجتمع، هي مسيئة لراهن العرب ومستقبلهم. وعلى ضوء ذلك من الضروري التفكير الجاد في إعادة صياغة مشروعات التنمية السياسية والاقتصادية، بحيث يتحول المواطن إلى قطب الرحى وحجر الأساس في كل مشروعات البناء والتنمية. وإننا كعرب لا نمتلك من خيار إلا خيار تنمية الذات وبناء قوتنا عبر تلاحم الخيارات والمشروعات والأولويات بين الدولة والمجتمع..
لذلك من الأهمية أن تتوفر في مجالنا العربي كل آليات الإنصات الحقيقي والجوهري لمصالح المجتمع وتطلعات المواطنين. ذلك الانصات الذي يقود إلى حركة اجتماعية متكاملة باتجاه الالتزام بكل مصالح المواطن، والعمل على إنجاز تطلعاته وطموحاته. ونحن هنا لا ندعو إلى القطيعة مع الخارج، ولكننا ندعو إلى صياغة هذه العلاقة وفق أسس جديدة.. وبوابة ذلك في تقديرنا هي: إعادة تنظيم أوضاع العالم العربي الداخلية في العالم العربي، بحيث ان إصلاح هذه الأوضاع، هو الذي يساهم في إعادة صوغ العلاقة مع القوى الإقليمية والدولية.
فالأولوية لا بد أن تكون للوطن والمواطنين في كل شيء. وإن الاستناد على هذا الخيار، هو الذي يساهم في إعادة تنظيم العلاقات العربية - العربية. فالرهان أولاً وأخيراً وفي مختلف المشروعات، ينبغي أن يكون على الداخل الوطني والعربي. وانه آن الأوان بالنسبة إلى الدول العربية جميعاً، أن تعيد النظر في مستوى اهتمامها النوعي بشعوبها ومجتمعاتها. وذلك لأن الخير كله مرهون إلى قدرتنا جميعاً على تطوير هذه العلاقة وفق منهجية جديدة، تتجاوز كل حالات الإهمال والالتباس في العلاقة والمسار.
وإن القوة الحقيقية في أية دولة، لا تقاس بحجم ترسانتها العسكرية والحربية، وإنما بمستوى انسجام خياراتها ومشروعاتها مع خيارات وتطلعات المجتمع. ولا شك أن إعادة الاعتبار إلى الأولويات الوطنية، سيساهم في خلق الانسجام والتناغم بين الخيارات والتطلعات.
3- بناء القدرات الوطنية والقومية، ووصل القول بالفعل، وانهاض كل مكونات الأمة للمساهمة في عملية البناء والتقدم. وذلك لأننا نعيش في زمن لا يمكن التوقف فيه. وإن البقاء في المكان ذاته يعد تراجعاً وتقهقراً للوراء. فالمجتمعات الإنسانية اليوم تتسابق مع بعضها البعض في مضمار التقدم والتطور. وأي مجتمع يتراخى أو يتوقف يفوته قطار التقدم. وإننا في العالم العربي أحوج ما نكون اليوم إلى العمل الجدي وفق خطة وطنية وتصور قومي لبناء قدراتنا وتطوير إمكاناتنا وحشد طاقاتنا في هذا السبيل. وإن بناء القدرات الوطنية وتنميتها المستدامة، هي التي مكنت المجتمعات المتقدمة من الهيمنة والاستيلاء والسيطرة على ثروات وإمكانات المجتمعات الأخرى. ولا يمكن أن ترد هذه القدرات إلا بقدرة تماثلها أو تعلو عليها.
وإننا بأي حال من الأحوال، لا يمكن أن نهمل بناء قدراتنا الوطنية والقومية التي يقتضيها البقاء والتقدم في هذا العصر. وجماع القول: إن الأسئلة المصيرية التي تطرح على الواقع العربي اليوم، تتطلب رؤية جديدة وإرادة متواصلة لتجاوز كل الكوابح والموانع، والانطلاق في رحاب البناء على أسس جديدة تتجاوز تلك الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي ساهمت بشكل أو بآخر في المأزق الراهن.
فالأسئلة القائمة مصيرية، وتتطلب أجوبة جديدة وجادة وحيوية وتأسيسية.
اضف تعليق