تراكم خبرات الحكومة في التعامل مع المظاهرات يقابله استراتيجية جديدة يتبعها المتظاهرين، وفي نهاية المشوار تبقى السلطة قائمة ومتنفذة ويبقى الجمهور منتشر بمحيط المنطقة الخضراء، وفي ضوء ذلك يبقى الأكثر وضوحا هو الغموض الدائم الذي بموجبه لا يمكن التكهن بمصير اللعبة الداخلية ومن سيحسمها...
من يتصور وصول حالة الفرد العراقي الى هذا الحد؟، وهل يعقل ان يذهب أحد بقدميه الى الموت المحتوم؟، نعم الموت المحتوم على ايدي القوات الأمنية التي تأخذ اوامرها من السلطات العليا الخائفة من زعزعة استقرارها وامانها الذي تعيشه في المنطقة الخضراء وقصورها، ومع ذلك تبقى إمكانية الإطاحة بالنظام الحالي غير ممكنة، وسيبقى يترنح بين الوقوف والانهيار.
اثار مشهد الآلية، (الشفل)، التي تجرف الكتل الكونكريتية على جسر الجمهورية، مشاعر السعادة لدى المئات الراغبة في دخول المنطقة الخضراء، والوصول الى مركز اتخاذ القرار العراقي، وتأتي خطوة التصعيد هذه ضمن أساليب التهديد المتبعة للنيل من القوى الحاكمة وقهر قوتها المتأتية جراء نشر آلاف العناصر من القوات الأمنية على اسوار المنطقة الخضراء ومداخلها الرئيسية.
الجموع التي خرجت قبل موعد انطلاق الحراك التشريني لم يُعرف والدها الشرعي لغاية الآن، فالبعض ينسبها الى جمهور التيار الصدري، والبعض الآخر يصنفها ضمن الثوار التشرينيين، وفي النهاية يبقى الهدف الأساس من التجمع والسير تجاه المنطقة الرئاسية هو عدم استمرار العلمية السياسية بهذه الصورة المحاصصاتية.
من يتابع الحراك الحاصل في السنوات الأخيرة يعرف انه وصل مرحلة من النضج، ويشعر ان التغيير أصبح قاب قوسين او أدنى، اذ يسود اعتقاد بان رأس النظام الحاكم قد حان قطفه ولا يصلح ان يتأخر في حكم البلد أكثر من ذلك الوقت، كونه لم يتمكن من انقاذ الشعب وسط كميات النعيم والثروات التي يتلاعب فيها عدد قليل من الساسة الجشعين.
وعلى الرغم من صعوبة التغيير بهذه النسبة من الحراك الشعبي، وما تملكه الحكومة من أساليب للقمع، الا ان هذه التحركات الاحتجاجية تعمل على هز اركان السلطات التعسفية والقمعية التي تجاوزت جميع خطوط حقوق الانسان وكرامته، ومع ذلك استطاع خروج الجماهير بالتوقيتات الحالية من غرس الجرأة في نفوس الثوار وجعل إمكانية مواجهة القوات الرادعة، بصرف النظر عن حجم الخسائر ونوعها، مقابل دق حصون الساسة التي يحتمون وراءها.
لا يمكن الجزم بسقوط او تغيير النظام الحالي بصورة جذرية، ففي كل جولة جماهيرية تقتلع جزء من الحصون المنيعة، وبذلك يحدث نوع من التنازل او المرونة من قبل الأحزاب في التعامل مع القضايا الجماهيرية، ليس حبا بها بل حرصا على مكتسباتها من فقدان جزء منها او كلها على خلفية الاحتجاجات المتكررة.
النظام الحالي من الصعب جدا وأده وفق الرغبة الجماهيرية الثائرة، وقد عشنا تجربة تشرين في الامس القريب، وكيف ذاب ممثليها بين الكتل السياسية الكبيرة التي عرفت كيف تتحكم بمسارات العملية، والاستفادة من الثغرات الحاصلة في الدستور العراقي والقوانين المقرة في فترات متعاقبة خلال السنوات الماضية.
القوى المعاكسة لسير المنهج السياسي بهذه الصورة لديها الرغبة الجامحة في تغيير نظام الحكم، مع ترك الساحة خالية من الحلول المنطقية التي تملأ الفراغ وتصحح الخلل في منظومة الحكم، وبالتالي يكون اسقاط النظام وفق هذا المخطط لا يقدم سوى نموذج حكم سيء وأوضاع غير مستقرة مع تأكيد شيوع الفوضى والاقتتال الداخلي بين الجهات المتصارعة على السلطة.
ولا يمكن ان يكون ذلك دعوة الى الاستسلام التام من قبل الجماهير، لكن وفي نفس الوقت لا ترتقي الأساليب الاحتجاجية الى قلع جذور الأحزاب المتشبثة في السلطة منذ سقوط نظام بغداد على ايدي قوات التحالف الدولي، وعدم مقدرة الجماهير على التغيير بهذه البساطة يرتكز على امريين أولهما، هو ان الحكومات السابقة والحالية تتحكم بالأموال الطائلة والأجهزة الأمنية بصنوفها كافة.
ويعطيها ذلك قدرة على التحكم بالأوضاع والتخويف المباشر لقمع المتظاهرين وتفريقهم من الساحات العامة عبر الاعتقالات والقتل والخطف وغيرها من الأساليب الوحشية.
اما الامر الآخر هو تخوين الخارجين للمطالبة بحقوقهم بوصفهم تبعية لجهة دولية تمثل أحد المحاور التي جعلت العراق ساحة للحرب غير المباشرة وتصفية الحسابات على حساب الشعب العراقي الذي يدفع الضريبة ولا يزال يأن من هذه الخصومة الدائمة.
شيء يقابل الآخر، تراكم خبرات الحكومة في التعامل مع المظاهرات يقابله استراتيجية جديدة يتبعها المتظاهرين، وفي نهاية المشوار تبقى السلطة قائمة ومتنفذة ويبقى الجمهور منتشر بمحيط المنطقة الخضراء، وفي ضوء ذلك يبقى الأكثر وضوحا هو الغموض الدائم الذي بموجبه لا يمكن التكهن بمصير اللعبة الداخلية ومن سيحسمها، فهل سيتمكن الشعب من تحقيق الغلبة وطرد المتمسكين بأدوات السلطة، ام ستبقى الحكومة تسير بالطريقة المترنحة دون السقوط؟
اضف تعليق