لا يُمكن الفصل بين كِيَانِ الفرد الحامل لمصير المُجتمع، والظواهرِ الثقافية الحاملة للأفكار الجوهرية والهُوية الإبداعية. وإعادةُ الإنسانيةِ الغائبةِ إلى الحُضُور في أنساق البُنية الاجتماعية، لا تتمُّ إلا باعتماد أسبقية الفكر على الواقع كمنظومة وجودية تَمنح الفردَ دَورًا فاعلًا في مَعنى التاريخ وتاريخ المَعنى، مِمَّا يُؤَدِّي إلى صناعة...
(1)
النَّسَقُ التاريخي في البُنية الاجتماعية لَيس تأريخًا لشعور الفرد بالحقيقة، أوْ تسجيلًا لتفاصيل حركته في الزمان والمكان، وإنَّما هو منهج حياتي يشتمل على الأدواتِ المعرفية، وآلِيَّاتِ تحليل سُلطة المُجتمع على الأحداث اليومية، وطُرُقِ تفكيك الوقائع التاريخية، بحيث تُستعاد العناصرُ الفكرية المنسيَّة، وتُسْتَرْجَع الأحلامُ الإنسانية المُهَمَّشَة، وتُبْعَث الأصواتُ المَكبوتة داخل الفرد وداخل المُجتمع.
وإذا كانَ إنتاجُ المعرفةِ هو الخُطوةَ الأُولَى لتحرير الفِعل الاجتماعي مِن الأدْلَجَة المَصْلَحِيَّة المُغْرِضَة، فإنَّ صِياغة الوَعْي هِي الخُطوة الأُولَى لتحرير الذاكرة الإنسانية مِن الوَهْم المُؤسَّس على سِيَاسة الأمر الواقع. والذاكرةُ الإنسانيةُ عندما تُصبح طريقًا للحُرِّية، وطريقةً للتَّحَرُّر، فإنَّ المُجتمع سَيَمتلك القُدرةَ على قراءةِ التاريخ مِن الداخل، وانتشالِ الأحلام الإنسانية مِن أعماق التاريخ السحيقة.
وهذه العمليةُ ضرورية لتجديدِ الخِطَاب اللغوي في تحليله للوقائع التاريخية، وتجديدِ الخِطَاب التاريخي في تحليله للرمزية اللغوية. والتاريخُ واللغةُ يُشكِّلان القاعدةَ الحاملةَ للتُّراثِ الثقافي باعتباره وَعْيًا مُتَجَدِّدًا في كافَّة الحُقول المعرفية، وسُلطةً تأويليةً في صَيرورةِ المَعنى وحركةِ الفرد في الحضارة بِوَصْفِه صانعًا للفِعل الاجتماعي، ومُنْتِجًا لفلسفة العلاقات الاجتماعية في التَّشَظِّيَات الفردية والجماعية داخل مُكَوِّنات المُجتمع الإنساني.
(2)
وظيفةُ الظواهرِ الثقافيةِ هي البحثُ عن تأثير سُلطة المُجتمع في التاريخ واللغة، ومُلاحَقَةُ آثار الوَعْي الإنساني في الأشياء والأفكار. وإذا كانَ التاريخُ يَمتلك كِيَانًا ذاتيًّا مُنْعَكِسًا عن مُفردات اللغة ومَعَانيها، فإنَّ اللغة تَمتلك هُوِيَّةً شخصيةً نابعةً مِن قوانين التاريخ المعرفية. وهذا يَعْني استحالةَ فصل التاريخ عن اللغة، ويدلُّ على أنَّ التاريخ يتحرَّك في فضاء اللغة أفقيًّا وعموديًّا، ويُشير إلى أنَّ اللغة تكتسب دَلالاتها المَجَازية والواقعية مِن فلسفة التاريخ التي تتجلَّى في الزمان والمكان.
وكُلُّ مُحاولة للفصل بين التاريخ واللغة سَتَبُوء بالفشل، لأنَّها -في واقع الأمر- تَعْني مُحاولةَ إقامةِ قطيعة بين السُّلطة والمعرفة. وهذا النظامُ التراتبي الذي يتكوَّن مِن التاريخ واللغة مِن جِهة، والسُّلطة والمعرفة مِن جِهة أُخْرَى، لا يُمكن فصل مُكوِّناته، لأنَّه نظام واحد، وقائم على توحيد عناصر المُجتمع الروحية والمادية.
ووجودُ ثنائية التاريخ واللغة يَحْمِي شخصيةَ الفرد الإنسانية مِن التَّفَجُّر مِن الداخل، ووجودُ ثنائية السُّلطة والمعرفة يَحْمِي حُلْمَ الجماعة المصيري مِن التَّمَزُّقِ، والتَّحَوُّلِ إلى شظايا خاضعة للصراع بين الذات والموضوع. إنَّ التاريخ واللغة يُحافظان على كِيَان الفرد، والسُّلطة والمعرفة تُحافظان على كَينونة الجماعة. وكِيَانُ الفرد وكَينونةُ الجماعة يُساهمان في رسم معالم الوجود الإنساني.
(3)
لا يُمكن الفصل بين كِيَانِ الفرد الحامل لمصير المُجتمع، والظواهرِ الثقافية الحاملة للأفكار الجوهرية والهُوية الإبداعية. وإعادةُ الإنسانيةِ الغائبةِ إلى الحُضُور في أنساق البُنية الاجتماعية، لا تتمُّ إلا باعتماد أسبقية الفكر على الواقع كمنظومة وجودية تَمنح الفردَ دَورًا فاعلًا في مَعنى التاريخ وتاريخ المَعنى، مِمَّا يُؤَدِّي إلى صناعة الحدث اليومي الذي يتفاعل مع الزمان كحقل معرفي، ويتفاعل معَ المكان كإرادة للحقيقة.
وهذا يُعزِّز الوَعْيَ بالذاتِ والجَوهرِ والهُوِيَّةِ. وعِندما يَعُود الفردُ إلى الأفكار الكامنة في أعماقه، يُدرِك الحَاجَةَ إلى تطوير أنظمة لُغوية قادرة على تحليل كَيْفِيَّةِ تَكَوُّنِ المفاهيم، وتأويلِها ضِمن مراكز الفِعل الاجتماعي وهوامشه، وتوظيفِ المراكز والهوامش للوصول إلى الحقيقة. والهدفُ مِن الحقيقة هو تحديد السِّيَاقات الاجتماعية التي تَحَوَّلَ فيها الوَعْيُ بالتاريخ إلى سُلطة قائمة بذاتها، وهذا مِن شأنه فَضَّ الاشتباك الفكري بين الصراع في التاريخ، والصراع على التاريخ. وبعبارة أُخْرَى، فَصْلُ البُنية الوظيفية في التاريخ عن المصلحة الشخصية في التاريخ. وهذه العمليةُ تُبَنى على رمزية اللغة، بِوَصْفِها الفلسفة الحياتية المُعاشة التي تَربط النظريةَ بالمُمَارَسَة.
اضف تعليق