لم تطل غيبة رئيس الوزراء العراقي الأسبق عن بغداد، نوري المالكي عاد إليها بعد أقل من أسبوع على مغادرتها، برغم التكهنات والأقاويل التي تحدثت عن زيارة قد تطول، وقد تصبح إقامة في المنفى، لتفادي المحاكمة على "الإهمال" المتسبب بسقوط الموصل... عاد المالكي وفي جعبته خطة عمل طارئة، قيل إنها تدور حول محورين: الأول، إصلاحي شامل، وتلكم هي سخرية القدر، والثاني: وهو الأهم، والمتصل بترتيب شؤون "البيت الشيعي السياسي" من الداخل.
ونقول سخرية القدر، لا لأن المالكي مسؤولٌ وحده عن استشراء ظاهرة الفساد في صفوف الدولة والأجهزة والمؤسسات العراقية في مرحلة "ما بعد صدام حسين"، بل لأنه المسؤول الرئيس عن تفشي هذه الظاهرة وشمولها مؤسسات الأمن والقضاء والجيش وكل مكان بلغته أذرع "اخطبوط المحاصصة" الطائفية والمذهبية... وهم المتهم الرئيس بالتسبب في سقوط ثاني مدن العراق، والاستنكاف عن اتخاذ التدابير اللازمة لمحاسبة المتورطين في "الكارثة" بعد وقوعها.
والمفارقة أن عودة المالكي بجعبة ثقيلة، استدعت اجتماعات على مستوى القمة لقادة وممثلي "البيت الشيعي السياسي"، امتدت لساعات طوال وستتواصل على مدى الأيام القادمة، تزامنت مع صدور موقف تحذيري لافت عن المرجعية الشيعية الأهم في العراق، طالبت فيه بمحاربة "لا هوادة فيها" للفساد، واستئصال الظلم و"المطلوميات" وإشاعة العدالة الاجتماعية، محملة الفساد المسؤولية عن سقوط معظم العراق في أيدي تنظيم الدولة "داعش"، ومحذرة من احتمال تقسيم العراق إن ظل الفساد والظلم منفلتان من عقاليهما.
نحن إذن أمام تفويضين متباينين وأولويتين مختلفتين: تفويض "المرجعية الإيرانية" التي جاء المالكي مدججا به، وتوصي بـ"ترتيب البيت الشيعي" من الداخل، وحفظ وحدة هذا المكوّن، وصرف نظر عن حكاية "الإصلاح"، وفي أحسن الأحوال، العمل بدءا من اليوم، وعفا الله عمّا مضى، حتى وإن أفلت المقصرون والنهّابون والفاسدون طوال السنوات الماضية، من المساءلة والمحاسبة... وبهذا يعود المالكي وصحبه إلى مزاولة أعمالهم وأدوارهم كالمعتاد لكأن شئياً لم يكن، ودائماً تحت شعار لا مصلحة تعلو فوق مصلحة الطائفة، ولا صوت يعلو على صوت "المقاومة"، مع كثيرٍ من الاستدعاء والتوظيف لشبح داعش الماثل على أبواب بغداد، لتحقيق أغراض أخرى، أقلها ضمان هيمنة فريق من العراقيين على السلطة، واستتباعاً إبقاء العراق حديقة خلفية للنفوذ الإيراني.
أما التفويض الثاني، فجاء من النجف الأشرف، وعلى لسان مرجعية السيستاني، وقد مُنح للدكتور حيدر العبادي من قبل، ولا ندري ماذا سيفعل به من بعد، ويقضي بجعل محاربة الفساد مدخلاً ومقدمة لحفظ وحدة العراق، وشرطاً للانتصار على الإرهاب، ووسيلة لمنع انزلاق البلاد إلى سقطات جديدة كتلك التي حصلت في الموصل والرمادي... حديث السيستاني عن مسؤولية الفساد في ضياع قسم العراق، يحمل اتهامات صريحة لنوري المالكي، صاحب أطول ولاية في حكم "عراق ما بعد صدام حسين"، وتحذيره من مخاطر تقسيم العراق إن استمر الظلم والفساد، يحمل توجيهاً للعبادي وحكومته بالمضي في طريق الإصلاحات، بل وتجذيرها... هنا يبدو اختلاف الأولويات واضحاً من بين طهران والنجف.
لم يكن مشوار العبادي في حكم العراق معبداً بالورود... جاء الرجل إلى موقعه كما يقول أصدقاؤه وخصومه، بنوايا طيبة ومشروع حميد، استحق معه دعم فئات عراقية عديدة، من داخل البيت الشيعي ومن خارج طائفته كذلك، وحظي بتأييد إقليمي ودولي تعذر على سلفه الحصول عليه... لكن الرجل ظل مقيداً بالصراعات داخل "البيت الشيعي"، وظلت يداه مكبلتين بقيود ثقيلة من داخل حزبه وائتلافه، إلى أن جاءت "ثورة الكهرباء والخدمات" من داخل "البيئات الشعبية" للتحالف الشيعي، مدعومة بتأييد صريح من مرجعية النجف، لتزيح عن كاهل الرجل بعض الأثقال التي أعاقت حركته وأحبطت مشروعه.
لكن الرجل، وما أن شرع في تطبيق "الوجبة الأولى" من إصلاحاته الإدارية والمالية والسياسية والأمنية، حتى بوغت بالهجوم المضاد، يأتيه من طهران هذه المرة ومن "ثغرة دفرسوار" قوامها الحزب والكتلة، ليجد نفسه بين نارين: نار التحركات الشعبية المطالبة بالإصلاح والعدالة مدعومة بموقف مرجعية السيستاني، ونار الضغوط الإيرانية المحكومة بحسابات طهران الإقليمية وأولوياتها.
قد يقال في معرض تفسير أو تبرير "الهجوم الإيراني المضاد" إن الأولوية المطلقة الآن، يجب أن تُعطى لمحاربة الإرهاب، فلا صوت يجب أن يعلو على صوت محاربته، وهذا صحيح، وهذا لم يغب عن بال وتفكير المتظاهرين في شوارع المدن العراقية أو المرجع الشيعي الأعلى... لكن الحرب على الإرهاب، خاسرة لا محالة، إن لم ينجح النظام العراقي في التخفف من آفة الفساد واستئصال الفاسدين واستعادة العدالة والتوازن المفقودين، وبصورة تجعل من المعركة ضد الإرهاب، معركة العراقيين جميعاً، لا ضد "داعش" فحسب، بل ومن أجل عراق مدني – ديمقراطي موحد.
اضف تعليق