تملك عملية التغيير الاجتماعي تصورا مثاليا عن المجتمع الذي تحكمه منظومة قيم صالحة تتبناها عملية التغيير. ليس بالضرورة ان تكون القيم المتبناة هي القيم السائدة وقت عملية التغيير، انما قد تتبنى قيماً اخرى تسعى الى تحويلها الى قيم سائدة. تكون القيم المتبناة بمثابة معالم في طريق عملية التغيير...
ينطلق المقال من فرضية مثبتة عمليا، وهي ان المجتمعات تبنى على اساس قيم مهما كانت. وانطلاقا من المعنى اللغوي لكلمة "قيمة" يكون بالإمكان ان نقول: ان المجتمعات تقوم بالقيم. تقوم المجتمعات الصالحة بالقيم الصالحة، والعكس يصح. وهذا معنى يمكن ان يستشف من الاية القرانية: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"، فضلا عن معانٍ اخرى كثيرة تتضمنها هذه الآية.
نسمي القيم التي يستند اليها المجتمع في قيامه "القيم السائدة"، وهي تلك القيم التي يتبعها الافراد وتتحكم بسلوكهم سواء عن وعي منهم، او بصورة لا ارادية. وفي هذه الحالة يجد الافراد صعوبة في مخالفة القيم السائدة والخروج عليها. وتتظافر عوامل كثيرة في تحويل قيمة ما الى قيمة سائدة.
تملك عملية التغيير الاجتماعي تصورا مثاليا عن المجتمع الذي تحكمه منظومة قيم صالحة تتبناها عملية التغيير. ليس بالضرورة ان تكون القيم المتبناة هي القيم السائدة وقت عملية التغيير، انما قد تتبنى قيماً اخرى تسعى الى تحويلها الى قيم سائدة. تكون القيم المتبناة بمثابة معالم في طريق عملية التغيير. سوف نطلق على هذا النوع من القيم اسم "القيم القائدة"، بمعنى القيم التي تقود عملية التغيير. بمعنى انها قيم يراد لها ان تقود المجتمع وتنقله من حالته الراهنة الى الحالة التي تصورها القيم القائدة.
هذا ما كانت تقوم به الدعوات النبوية، والحركات الاصلاحية، والثورات السياسية. حصل هذا ويحصل منذ زمن نوح (قبل الطوفان) حتى الان.
تنظر الحركة الاصلاحية، نبوية الهية كانت ام بشرية وضعية، الى المجتمع فتجد انه محكوم بمنظومة قيم معينة. تقوم الحركة الاصلاحية بقياس منظومة القيم السائدة على منظومة القيم القائدة، ويكون الفرق بينهما هو موضوع التغيير. فاذا كانت العبودية للحاكم هي القيمة السائدة يكون موضوع التغيير هو الحرية.
وإذا كان الشرك هو القيمة السائدة كان التوحيد هو موضوع التغيير. وإذا كان الظلم الاقتصادي هو القيمة السائدة كان العدل هو موضوع التغيير وهكذا. الموقف من القيم السائدة يتحدد طبقا لموافقة او مخالفة هذه القيم للقيم القائدة. استعراض خطابات التغيير لدى كل الانبياء منذ نوح الى محمد، واستعراض خطابات التغيير لدى الثورات منذ الثورة الفرنسية الى الثورة الايرانية، وما قبلهما وما بعدهما يقدم المثال تلو المثال، بل الدليل تلو الدليل، على صحة ما نقول.
واذا فان الحركة التغييرية تقوم بدراسة القيم السائدة في مجتمعها وتشخصها وتحللها ثم تحكم عليها من منظور القيم القائدة وترسم استراتيجية التغيير على هذا الاساس. وهذا ما نحن بحاجة الى القيام به لفهم المجتمع العراقي في حالته الراهنة. وهذه الدراسة يجب ان تضع بنظر الاعتبار الحقائق التالية:
الحقيقة الاولى: ان المجتمع العراقي مجتمع اسلامي مخضرم.
الحقيقة الثانية: مجتمع ريفي، بدوي، مديني.
الحقيقة الثالثة: ملتقى حضارات واحتلالات كثيرة.
الحقيقة الرابعة: مئة سنة اخيرة من اضطراب قيمي.
الحقيقة الخامسة: التضارب الاسلامي العلماني.
الحقيقة السادسة: الاختلالات في المركب الحضاري.
الحقيقة السابعة: التنوع الاثني والثقافي.
كل حقيقة من هذه الحقائق بحاجة الى دراسة مفصلة من اجل تشخيص القيم السائدة، وتشخيص أثرها في حياة المجتمع العراقي. وقد قام علماء اجتماع بارزون، في مقدمتهم الدكتور علي الوردي، بإنجاز دراسات رائدة في هذا المجال، لكننا مازلنا بحاجة الى دراسات تفصيلية اخرى لرسم خارطة القيم السائدة في المجتمع العراقي، وتحديد الصالح والطالح منها من زاوية السعي الى اقامة حياة سياسية سليمة وديمقراطية، وحياة اقتصادية منتجة وعادلة، في إطار دولة حضارية حديثة.
وكل هذا يتطلب بناء منظومة قيم قائدة تستطيع ان تحقق اجماعا وطنيا وتكون قاعدة لهذه الدولة المنشودة.
اضف تعليق