q
بعض الناس توجد لديه معرفة ويعرف العواقب التي تنتظره، لكنه مع ذلك تسيطر عليه الأهواء، كالسلطة، والمال والمغانم، ويكون طماعا، وتستحوذ عليه الأهواء، لاسيما عندما يبدأ بخطوة الانحراف الأولى، فإذا بدأ في الخطوة الأولى استحوذ عليه الشيطان، وفي هذه الحالة لا يصبح مجبورا على الخطأ، وإنما اختياره...

في بحثنا عن هوية المسلم المعاصر تساءلنا عن كيفية تكون شخصية الإنسان وهل لها علاقة بالسلوكيات المكتسبة من البيئة المحيطة، وهل هذه السلوكيات موروثة من الآباء والأجداد، أو أنها تولد مع ولادة الإنسان؟

تطرقنا في المقال السابق إلى العناصر التي تُسهم في بناء شخصية الإنسان، وذكرنا من هذه العناصر (الأسرة، الحواضن الاجتماعية، والغايات)، فما هي العناصر الأخرى التي تُسهم في بناء الشخصية؟

التراكم الاختزاني

ومن العناصر المهمة في عملية تشكيل شخصية الإنسان، هي المعرفة والثقافة، أو من الممكن تسميتها بالأفكار المخزونة في داخل فكر الإنسان، فأما أن تكون هذه الأفكار نابعة من معرفة ذاتية يختزنها في ذهنه، أو افكار نابعة من معرفة اجتماعية ارتجالية يتلقاها من الأسرة بلا تخطيط او هدف، أو يتلقاها من الشارع أو المدرسة عشوائيا، وقد تكون موروثة أو مكتسبة تأتي من خلال المحيط الذي يعيشه في الإنسان.

شخصية الإنسان عبارة عن تراكم سلوكياته المستمرة، فمنذ لحظة الولادة إلى اللحظة الأخيرة يكون الإنسان عبارة تصورات تنطبع في ذهنه مع كل حركة او انفعال، ففي كل هذه الفترة الممتدة من الولادة إلى الممات يكتسب الإنسان في كل لحظة أو دقيقة أو يوم سلوكا جديدا، وسوف تتراكم هذه السلوكيات، وكلما تراكمت أكثر تنشأ شخصيته، وتكون هوية هذا الإنسان وشخصيته تعريف عن الحالة التراكمية الموجودة في داخله.

البيئة الفكرية والمعرفة المستهدفة

أما أن يكتسب الإنسان المعرفة من خلال بيئة فكرية حقيقية عميقة، ومعرفة مستهدفة، أو يكتسبها عشوائيا، وفي هذه الحالة أما أن يكون شخص له غاية معينة في المستقبل، أو تكون له شخصية عشوائية، وقد يختار هذه العشوائية الفوضوية بنفسه من خلال شيئين:

الشيء الأول: الأهواء التي تسيطر عليه مثل الشهوات وحب الدنيا والحرص والطمع والحسد، والتحرر من الالتزام والانضباط والتحلل من المسؤولية.

الشيء الثاني: الانفعالات التي تحصل عند هذا الإنسان من خلال تفاعله مع الواقع الموجود، هذه الانفعالات مهمة جدا وبعضها نابع من الرغبات الذاتية، فينفعل انفعالا نفسيا غير مدروس لكل الأفعال التي تحدث كرد فعل. هذه العملية يمكن تسميتها بعملية البناء والتراكم المنظَّم او اللامنظم للجوانب الفكرية والسلوكية للشخصية.

والحواضن والبيئات التي يعيشها الإنسان تؤثر كلها في عملية التراكم السلوكي للإنسان، لذلك لا يمكن للفرد أن ينفرد لوحده في بناء نفسه، فهذا أمر صعب جدا، لأن الإنسان يبني نفسه من خلال الاحتكاك الاجتماعي، وقد ذكرنا بأن المعرفة مهمة في هذا الجانب، فالمعرفة الواعية تجعله مدركا لعواقب كل السلوكيات من المبدأ إلى المنتهى.

هناك بعض الناس توجد لديه معرفة ويعرف العواقب التي تنتظره، لكنه مع ذلك تسيطر عليه الأهواء، كالسلطة، والمال والمغانم، ويكون طماعا، وتستحوذ عليه الأهواء، لاسيما عندما يبدأ بخطوة الانحراف الأولى، فإذا بدأ في الخطوة الأولى استحوذ عليه الشيطان، وفي هذه الحالة لا يصبح مجبورا على الخطأ، وإنما اختياره واستمراره في هذا الطريق يؤدي إلى التراكم السيّئ لأفعال الانحراف في شخصيته.

الفرق بين الكسب والاكتساب

القرآن الكريم يسمي هذا التراكم بمصطلحين هما الكسب والاكتساب، يقول الله سبحانه وتعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ...) البقرة 286، بمعنى كل ما يكسبه الإنسان فهو له، وكل ما يكتسبه فهو عليه، وقد اختلف المفسرون حول الفرق بين الكسب والاكتساب، ولكن في كل الحالات عند المقارنة مع الآيات القرآنية الأخرى اكتشفنا بأن المعنى قد يكون هو (الكسب له) لأنه طريق الخير وفيه منفعة له، وكل ما يكتسبه فهو عليه ويكون في طريق الشر والسوء.

القيم الفطرية الباعثة

الكسب يعني الحركة الطبيعية للإنسان نحو تحصيل المنافع المشروعة، فهي تتناسب مع القيم الفطرية الباعثة، وتكون مؤطرة بالأحكام الشرعية والفضائل العملية، فالكسب هو حركة طبيعية عادية وليس فيها عملية انفعال، فيكون الإنسان في هذه الحالة سائر في طريق منظَّم، نحو تحصيل المنافع والغايات، وبالنتيجة تحصيل العواقب الجيدة، من خلال السير في الطريق الذي يتناسب مع القيم الفطرية والأخلاقيات والموازين الكونية وبالتالي كسب الأشياء الجيدة والخيّرة والصالحة.

وهذا الأمر مرتبط بـ (الوسع) بمعنى (القابلية)، فيملأ وسعه وجهده بطريقة الخير ويكون هذا الطريق سلسا وسهلا وغير متناثر العواقب، وغير متناقض، ونافع ومثمر للإنسان.

وفي الكسب صفة أساسية أخرى، فهو يكسب لغيره ايضا، ولا يكسب لنفسه فقط فيعود الخير له ولغيره.

مثال تقريبي على ذلك، إذا كان هناك بائع لديه محل، ويريد أن ينفع الناس، فهذا كسب لأن غايته منفعة الناس، فيأتي بالبضائع الجيدة فهو لا يفكر بنفسه وينصح المشتري، هذه السلعة تفيدك وتلك السلعة قد لا تنفعك، فيعطي للمشتري البضاعة الجيدة ولا يغشه، فهذا الإنسان ينفع غيره بكسبه، وعندما ينفع غيره بكسبه سينفع نفسه، فينظر الناس لهذا الكاسب على أنه صادق وطيب وناصح، فيزداد المشترون والزبائن من محله ويتضاعف خيره ورزقه.

فالكسب هو الكسب الطبيعي، الكسب النافع، الكسب المنتج، وهناك فرق بين المنتج والمستهلك، فالكسب المنتج هو الذي ينفع الآخرين، والذي يراعي فوائد الآخرين، وفوائد البيئة وفوائد المجتمع، هناك بعض التجار يستوردون بضائع رديئة للناس بشكل مقصود لكي يربح أكثر، هذا النوع يسلب الله سبحانه وتعالى منهم البركة، لذا فإن الكسب بمنفعة الآخرين يكون فيه بركة لمن يقوم به ويعود عليه بالنفع اضعافا مضاعفة.

مخاطر الكسب السلبي

أما الاكتساب، هو الحركة غير الطبيعية أو الحركة المصطنعة لتحقيق الانتفاعات الخاصة بغض النظر عن الوسائل التي يستخدمها، فهو يكون عابرا للحدود ومستعجلا للكسب، لذلك يكون هذا النوع من الكسب سلبيّا، وليس إيجابيا، فهو كسب أيضا لكنه سلبي، وإذا كان سلبيا سوف يصبح اكتسابا، حيث يستعجل الإنسان عملية الكسب، ويريد الربح بسرعة، مهما كانت النتائج فهو يريد الربح والكسب لنفسه فقط، دون مراعاة الآخرين، سواءً انتفعوا أو تضرّروا، لذلك تكون حياة هذا الإنسان صعبة ويكون بائسًا.

فعمله سيّئ حيث يستورد البضاعة الرديئة، أو المنتهية الصلاحية (اكسباير)، لذلك تكون حياته صعبة، ويكون بائسا ومرهَقا بالشر والسوء والمعاصي، وهذا النوع من الكسب أو الاكتساب يكون لنفسه وحدها، وليس للغير، لكنه في النهاية ينقلب على من يقوم به.

نفع النافع وانتفاع المنتفع

مثال آخر حول الفرق بين (الكسب والاكتساب)، بمقارنة مع مفهومي (النفع والانتفاع)، ففي موضوع طرحته سابقا حول الفرق بين النفع والانتفاع بعنوان (كيف ينفع الإنسان نفسه؟)، النفع يكون للغير دائما، ولكن ينعكس على من يقوم به فينفع نفسه بالنتيجة فيكون نافعا، أما المنتفِع بالانتفاع فهو يطلب النفع لنفسه فقط، فهو أناني، لذلك فإن المنتفع لا يسمى نافعا، وإنما منتفعا.

وفي تفسير قوله تعالى حكاية عن عيسى: (وجعلني مباركا) أي نفّاعا، كما روي عن الامام الصادق (عليه السلام)، و(نفّاعا) أي كثير النفع للناس وهذه هو معنى البركة، ومن هنا تأتي. كذلك الكسب والاكتساب، الكسب بالطريقة الطبيعة الفطرية يكون للإنسان ولغيره، وأما الاكتساب فهو يكون للنفس فقط.

هذا النوع من الناس يحركه الطمع والحرص على الدنيا، والسلط، والمغانم السريعة، ودائما تجدهم أناسا بائسين مرهَقين، لأن المنتفِع والمكتسِب مرهق بالدنيا، وغير مرتاح، لأن الراحة الحقيقية في الحياة تتم عندما يشعر الإنسان بأنه نافع للناس، بعد أن قدَّم شيئا لهم، أما المنتفعون والمكتسبون فهم غير مرتاحين في حياتهم، حتى لو كانت لديهم أموال لأنه لا يشعر بقيمتها وحقيقتها.

النفس الصدئة

إن كل القضايا تشكل شخصية الإنسان ومنها قضية الكسب والاكتساب، فإذا كان الإنسان على علم بذلك، فإن هذا سوف يؤدي إلى بناء شخصيته بناءً سليما وصالحا، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) فصلت، 46. فهناك عمل للنفس وعمل عليها.

وفي آية قرآنية أخرى: (وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِه وَكَانَ اللَّهُ عليمًا حكيمًا) النساء، 111، وفي آية أخرى يقول تعالى: (كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) المطففين 14. إن القصد في هذه الآيات القرآنية (ما كانوا يكسبون)، لأن الكسب هنا بمعنى الكسب السلبي، وجملة (ران على قلوبهم) تعني الأشياء التي تتراكم على قلوبهم، بحيث يصبح القلب قاسيا صلدا.

إن الشيطان يستحوذ عليه، لأن قلبه قاسي، وكلما تزيد سيئاته واكتساباته السيئة، يتراكم السوء على قلبه، وتتشوه شخصيته، (بل ران على قلوبهم) بمعنى أصبح صدئا، وصلدا، ويكون حاجبا عن التوجه لإصلاح نفسه.

كيف نزيل التراكم السيّئ؟

ولكن كيف يصلح نفسه وما هو الطريق إلى ذلك وكيف يزيل هذا التراكم السيّئ؟، هناك طريق وضعه الله سبحانه وتعالى لنا.

من الممكن أن يخطئ الإنسان وينسى ويرتكب الأخطاء والذنوب، فلابد أن يكون عند الإنسان طريقة لكي يرجع إلى الوضع الطبيعي، ولا يبقى مستمرا في طريق الخطأ، وإذا استمر في ذلك وبقيَ مستمرا دون توبة أو غفران، فإن قلبه بالنتيجة سوف يزداد صدءً وصلادة إلى أن يصل إلى درجة يصبح فيها قلبه قاسيا كالحجارة أو أشدّ.

إن الله تعالى كما في الآية القرآنية التي ذكرناها في البداية:

(لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) البقرة 286. أعطانا طريقا وهو الارتباط بالله، وكلما ابتعد عن الله تعالى يزداد بؤسا واكتسابا للسيئات، وبعض الناس بسبب ابتعادهم عن الله يمتلئون كآبة، وهذه المشكلة لابد أن يصلحها مع نفسه، من خلال (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) وقد يكون الخطأ هنا ذنبا، وكلمة (إن نسينا) بمعنى إنه أهمل الشيء، وهذا يعني أن نسيانه متعمَّد أو عن تقصير، فيكون هذا النسيان قريبا من الخطأ.

متى ينطفئ النور المعنوي؟

وجملة (ولا تحمل علينا إصرا) لا تعني أن الله يحمل عليهم وإنما هو طلب المساعدة، فالكابوس الذي يسيطر على الإنسان هو ثقل، والثقل له أنواع كثيرة، ثقل من حيث الآثار الوضعية وهي أفعال الإنسان، والثقل من الناحية النفسية، فكلما أخطأ الإنسان سوف يصبح هذا كابوسا لأنه يتجمّع ويكون ثقلا معنويا، وينطفئ فيه نور المعنوية، ويزداد عليه الظلام، فكل هذا إصر وثقل على الإنسان ويدمره ويجعله مريضا فيطلب المساعدة من الله سبحانه وتعالى.

إرثنا السلوكي للأجيال المقبلة

القصد من جملة (كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا) هو طلب توبة، بسبب الحواضن التي تطرقنا لها سابقا، وحسب الظاهر أن القصد من هذه الآية الكريمة هو الذنوب والآصار التي ورثناها من الأمم السابقة، فالأجيال السابقة تورث الأجيال اللاحقة سلوكيات وآراء وقضايا، إضافة للواقع الموجود، بالنتيجة فإن أفعالنا تٌنقَل الى الآخرين من أجيالنا اللاحقة، ويتأثرون بها.

بعضهم يتصور أن الآخرين لا يتأثرون بأفعال غيرهم، فنبقى نعيش في الفوضى ولا ننظر إلى المستقبل، ونعني به مستقبل الأجيال اللاحقة التي سوف ترث كل أفعالنا ونتائج أعمالنا كما ورثنا أعمال السابقين.

رفع العذابات

(ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به)، فما يحدث وما اكتسبه الانسان من افعاله وافعال من قبله يخرج عن طاقته، ولكن هذه أعمالنا، فإذا استغفرنا سوف يساعدنا الله سبحانه وتعالى ويرفع عنا هذا الإصر والثقل الكبير عبر (واعفو عنا واغفر لنا أنت مولانا فانصرنا)، العفو بمعنى الإزالة، فنطلب من الله تعالى أن يزيل كل نتائج أفعالنا في الآثار الوضعية الموجودة في حياتنا، نحن في مجتمعاتنا لدينا أخطاء كثيرة، فنحتاج إلى الله سبحانه وتعالى كي يزيل آثار هذه الأفعال بحيث لا تكون عائقا أمامنا.

وبعد مرتبة العفو فإن الله سبحانه وتعالى يزيل كل الأشياء التي فعلناها، ويرفع عنا العذاب ويزيل الآثار لأنها بالنتيجة تبقى تؤذينا وتؤذي الآخرين، فنطلب من الله أن يزيلها، مثل الآثار المناخية على سبيل المثال، (واغفر لنا) تعني رفع العذاب، سواء كان العذاب الدنيوي أو العذاب الأخروي. وفي الآية القرآنية الكريمة: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) الانفال 33، فالأمة التي لا تستغفر وتطلب الستر، والشخص الذي لا يستغفر يكون دائما محاطا بالعذاب، لذلك فإن الاستغفار اللفظي والعملي في عملية الإصلاح وفي ترميم مسار الامة وبناء شخصية الانسان.

العذاب من صنع الإنسان لنفسه

إن الله تعالى لا يسلط علينا العذاب، لأنه سبحانه رحيم ورحمته واسعة، ولكن هذا العذاب نتيجة لأفعال البشر، فإنهم صنعوا العذاب والكابوس بأنفسهم، والدليل على ذلك هذا الفساد المستشري في الكثير من مناطق العالم، الذي يدمّر البشرية ومجتمعاتها، فكل فاسد ومفسد يحمل في داخله كابوسا من الشر ومن الظلم على نفسه وعلى غيره، هذا هو العذاب (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) النساء 10. هذا هو معنى العذاب والكابوس الكبير الذي يعيشه الإنسان، وهذا هو الإصر والثقل الموجود على الإنسان. لذلك فإن الإنسان الذي لا يستغفر سيبقى هذا العذاب ساكنا فيه.

الفساد يحبس النِعَم

(وارحمنا أنت مولانا) الرحمة هي النِعَم، وتبان الرحمة في النعم الإلهية، وتُحبَس النِعَم بالاكتساب السيّئ، لأن المذنب هو الذي يكون حاجزا عن حلول النِعَم كما نلاحظ في قضية الفساد حيث يدمّر جميع النِعَم، ويبتلع الموارد ويحرق الحياة.

على سبيل المثال هناك شخص من أجل الحصول على رشوة بمليون دولار، فإنه يقوم بتدمير مليارات الدولارات من الموارد، من أجل نفسه، هناك بعض الأشخاص يدخلون في بعض المشاريع، فيحصلون على هدية أو عمولة معينة أما صاحب الصفقة فيربح الكثير، لكن هذه الصفقات تدمر الناس، فهل هناك أكثر من هذا العذاب، لذلك فإن هذا الفساد يحبس النِعَم، ويكون عائقا أمام الحصول عليها.

الانتصار على الاكتساب

(فانصرنا على القوم الكافرين)، ومعنى الانتصار بالكسب الطبيعي والاستغفار والرحمة الإلهية، أما الكافرين فتعني الأمم التي تسيطر علينا وتستحوذ على ثرواتنا وتستعمرنا ونكون عبيدا لهم من خلال ما اكتسبناه، فالتخلف والتبعية التي استلبت بعض المجتمعات المسلمة هو بسبب أنها تعيش الاكتساب السيّئ في حياتها، فتكون ذليلة خانعة للأمم الأخرى.

لذلك فإن الانتصار والفوز والفلاح يأتي من خلال عملية الكسب الصحيح، وعملية الاستغفار وطلب العفو والرحمة من الله سبحانه وتعالى.

الاكتساب وثقافة القطيع

الغايات المادية في الغالب لا تشبع الإنسان، وان فهم الوجود في الحياة من أجل العيش للمادة فقط، فهذا نوع من قصر النظر الشديد، فالإنسان أكبر وأعظم من أن يعيش حياته من دون غاية، أو له غاية ضئيلة، لذا يجب على الإنسان أن يستثمر الحياة استثمارا جيدا، ويوسِّع آفاقه، ويطرد الانفعالات والأهواء من نفسه، لكي تكون غاياته كبيرة وعظيمة، لذلك يستطيع الإنسان أن يسير في هذا الطريق من خلال فهمه لعملية التراكم السلوكي في نفسه وعواقب أفعاله.

في كل يوم يخرج فيه الإنسان إلى العمل أو إلى الحياة اليومية، هل يكفي أن يكتسب ما يريده، لنقل أن هذا الشيء عبارة عن برمجة، فهو يعرف أن لديه طريقان، أحدهما طريق الكسب، والآخر طريق الاكتساب، وفي بعض الأحيان يأتي الاكتساب من خلال ثقافة القطيع، أو وفق مبدأ (حشر مع الناس العيد)، فلأن الناس دخلوا كلهم في هذا الشيء أنا أيضا أدخل معهم.

فالإنسان على نفسه بصير، هل يريد أن يكسب أم يكتسب؟، فإذا كسب وأخطأ له طريق العفو والاستغفار، أما الاكتساب يأخذه نحو البناء السيّئ للشخصية، وهنا مكمن الأمر، ولدينا كلام آخر يكون مكمّلنا لكلامنا هذا، الارتهان بما يكسبه الإنسان وهو أن يكون حبيسا لكل شيء يفعله، فكل شيء يفعله الإنسان يصبح مسيطرا عليه وحبيسا له، فكيف سيختار؟

الكسب الإيجابي الصحيح

مثلا إذا أراد أحدهم أن يختار طريقا أو عملا معينا، فيختار بين العمل السهل والصعب، وبين العمل المربح والخاسر، أو بين العمل الخطير والآمن، أو أن هذا العمل فيه منافع مادية فقط والعمل الآخر فيه منافع مادية ومعنوية ومنافع للآخرين.

فكل عمل يعمله سوف يكون مكبّلا به، وكل اختيار يختاره سيكون مكبّلا بهذا الاختيار، فيزداد ويكبر الارتهان لهذا الإنسان ويبقى حبيسا للشيء الذي اختاره، وفي الآية القرآنية: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ، فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ الْمُجْرِمِينَ) المدّثر ٣٨-٤١. بما كسبت رهينة أي حبيسة كالشيء المحبوس، الرهينة تعني أن الإنسان يرهن شيئا معينا مقابل شيء آخر، كأن يستدين مالا من الآخرين، فالمال أو الشيء المحبوس يسمى رهينة.

حتى الإنسان المحبوس في السجن يسمى رهينة، فكل إنسان يكون عنده حساب وكتاب ويكون رهين الفعل الذي يختاره، (إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون)، فأصحاب اليمين هم الذين دخلوا في طريق الكسب الصحيح الإيجابي، وليس في طريق الاكتساب.

* سلسلة حوارات تبث على قناة المرجعية تحت عنوان (جواهر الأفكار)

اضف تعليق