ان الفرز السياسي اظهر اطروحتان احدهما ينادي بالأغلبية الوطنية في حين الثانية تطالب بالاستمرار بحكم التوافقية السياسية، الأولى صمدت في مشروعها لكنها لم تستمر داخل مجلس النواب في حين مثل انسحابها نصرا جزئيا او مؤقتا لمشروع التوافقية في انتظار ما ستصبو إليه العملية السياسية في قادم الأشهر...
قد تكون من ابرز مخرجات احتجاجات تشرين عام 2019 على مستوى العمل السياسي والحزبي في العراق بأن اصبح لدينا قوى سياسية تدرك خطورة الاستمرار بالتوافقية السياسية والمحاصصة داخل العملية السياسية، وهذا ما يفسر طرح السيد الصدر مشروعا سياسيا بعد انتخابات تشرين عام 2021 قائم على أساس حكم الأغلبية الوطنية في قبالة وجود المعارضة، صحيح ان مشروعه هذا لم يكتب له النجاح لأسباب كثيرة قد نعرج لها في هذا المقال، وأدت بالصدر بالنهاية الى الانسحاب من العملية السياسية، وتقديم كتلته السياسية الفائزة بالانتخابات بواقع 73 مقعدا استقالة جماعية عن مجلس النواب، بعد ان أصرت القوى السياسية الأخرى لاسيما قوى الاطار التنسيقي (مجموعة أحزاب وقوى شيعية اغلبها تراجعت في انتخابات تشرين الاخيرة) على الاستمرار بحكم التوافقية السياسية في قبال رؤية التحالف الثلاثي الذي يضم الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتحالف السيادة، إضافة الى التيار الصدري.
صحيح ان الصدر اصر على ان تدار العملية السياسية بعد انتخابات تشرين بأطروحتين هما: (الأغلبية) و(التوافقية)، وقد نجح في تكوين تحالف نيابي يضم اغلبية بسيطة ومرر فعلاً اكثر من قانون وصمد طوال فترة سبعة اشهر لكن في الأخير ربما فاجأ الصدر تياره قبل غيره بتقديم استقالة نوابه من مجلس النواب مما مثل خطأ استراتيجيا كونه جعل كفة أطروحة استمرار العمل بالتوافقية والمحاصصة أقوى، وكان بإمكان الصدر ان يجد اكثر من طريقة في تمرير مشروعه وكان أيضا باستطاعته ان يلجأ الى اسهل الخيارات لا أعقدها بالنسبة للتيار الصدري على الأقل مثل: خيار الذهاب الى المعارضة النيابية لاسيما وان لديه كتلة برلمانية كبيرة وباستطاعته استقطاب قوى وشخصيات مستقلة.
عموما تراجع مشروع الأغلبية في قبال ذلك سنحت الفرصة من جديد لمشروع التوافقية بعد الاستقالة وكانت بمثابة الفرصة الذهبية التي لا تفوت بعد ان اصبح الاطار التنسيقي عمليا الكتلة النيابية الأكثر عددا، كما ان تراجع الصدر اعطى فرصة لقوى الاطار التنسيقي ان يعوض خسارته في الانتخابات الأخيرة وربما باستطاعته ان يعيد نفسه من جديد اذا ما نجح بتشكيل حكومة قوية ونزيهة قادرة تحقيق طموحات الناس وحل المشاكل التي يمر بها البلد، في خطوة مثل استقالة كتلة فائزة بعدد مقاعد النواب تضع اكثر من علامة استفهام عن أسباب الانسحاب والاستقالة، واذا ما رجعنا الى رؤية التيار الصدري حول الانسحاب فنرى قدم عدد من الأسباب قد يكون بعضها مقبولاً وأخرى غير مبررة، ومن تلك الأسباب الآتي:
انه لا يريد ان تشكل الحكومة يشترك بها مع من اسماهم بـ(الفاســدين والتبــعيين والطائفيين) لم يحدد تلك القوى ربما في إشارة الى بعض قوى الاطار التنسيقي وقوى اخرى.
من الأسباب الأخرى أيضا ما يراه الصدر وقوف المستقلين بالحياد من مشروع حكومة الأغلبية الوطنية وذلك لأسباب الترغيب والترهيب أو عدم الثقة، وهذا ما حدث فعلا رغم ان المستقلين اصبحوا في تلك الفترة يشكلون بيضة القبان، واغلبهم يؤيد من حيث المبدأ أطروحة الأغلبية السياسية، لكن ربما عدم الثقة او حتى أسلوب الترغيب والترهيب مثلما أشار الصدر جعلهم يقاطعون مشروع الأغلبية الوطنية الذي طالب به الصدر.
ويرى الصدر ان إصرّار الكتل السياسية وبعض الدول على التوافق دون ان يسميها على التوافقية والمحاصصة في حين يرى الصدر ان ذلك يمثل ظلما جديدا (للشعب والوطن).
ومن الأسباب أيضا عدم مناصرة ما اسماه الصدر (الطبقات الواعية كالإعلاميين والمحللين والكفاءات والتكنوقراط وغيرهم لمشروع الأغلبية الوطنية بل وقوف بعضهم بالضدّ لا سيما مع الحرب الإعلامية المعادية). وعدم وجود مناصرة شعبية لذلك على الرغم من أن الأغلب متعاطف مع مشروع الأغلبية، إضافة الى تسلّط ما أطلق عليهم الصدر بـ(المنتفعين والمنشقين والدنيويين من التيار في حال نجاح تشكيل حكومة الأغلبية الوطنية).
وهنا يعتقد الصدر بانه بمثابة تعرض وهذا آخر ورقة شيعية وطنية للخطر في إشارة الى التيار الصدري. ومن الأسباب الأخرى الخطيرة المحتملة جدا وقوع صراع شيعي-شيعي على تقاسم المغانم الحكومية قبل تشكيلها وخشيته من تصاعد هذا الخطر بعد تشكيل الحكومة بقيادة التيار الصدري في إشارة الى العنف المحتمل من قبل فصائل محسوبة على قوى الإطار التنسيقي الشيعي.
ويشير الصدر الى ان إصدار قانون تجريم التطبيع من قبل البرلمان بمقترح من الصدر نفسه أدّى الى تكالب ما اسماه الخارج ضد صاحب مشروع الإصلاح ومشروع الأغلبية، ويرى الصدر ان تشكيل حكومة الأغلبية سيصطدم بالفـساد المستشري في كل مفاصل الدولة بما فيها تسيس القضاء وغيرها من مؤسسات الدولة، ولم يخفي الصدر بعرض ما كان يصوره الاطار التنسيقي بخطابات تحريضية وتسقيطية منها ان التيار الصدري يريد ان يعطي حصة المكون الشيعي الى المكونات الأخرى، اذ ان الاطار التنسيقي ظل يراهن على الخطاب المذهبي في قبال الخطاب الديمقراطي الذي كان يطرحه الصدر بتشكيل حكومة قائمة على أساس الأغلبية الوطنية وليس المسميات الدينية او الطائفية او العرقية، من هنا أشار الصدر الى ان من أسباب الانسحاب هو تصديق من اسماهم بالسذّج من أن حكومة الأغلبية تريد (إضعاف للمذهب.. وهذا أمر محزن جداً.. فالمذهب لا يعلو بالفــساد بل بالإصلاح ونبذ الطائفية).
صحيح ان الصدر هنا لم يبرهن في خياره هذا بأركان النظرية الديمقراطية من انها ترجح الفائز في الانتخابات وتعطيه الأولوية في قيادة الدولة لكنه كان يعتقد ان ما تطرحه قوى الإطار التنسيقي هو توظيف للعنصر المذهبي ليس اكثر.
مما تقدم نستطيع القول: "ان من ابرز مخرجات حراك تشرين في عام 2019 وانتخاباتها في 2021 رغم الفارق الزمني الا ان هناك فرز سياسي يصب في تصحيح معضلات العملية السياسية رغم ان المحكمة الاتحادية اظهرت بصورة جلية عيوب الدستور الواضحة ومنها الاخذ بالتوافقية السياسية في اختيار رئيس الجمهورية كون ان أي انتخابات برلمانية أجريت في العراق لم تفرز لنا اغلبية بالثلثين، وهذا ما يتطلب الحاجه الضرورية لتعديلات دستورية.
كما ان الفرز السياسي اظهر اطروحتان احدهما ينادي بالأغلبية الوطنية في حين الثانية تطالب بالاستمرار بحكم التوافقية السياسية، الأولى صمدت في مشروعها لكنها لم تستمر داخل مجلس النواب في حين مثل انسحابها نصرا جزئيا او مؤقتا لمشروع التوافقية في انتظار ما ستصبو إليه العملية السياسية في قادم الأشهر من تصعيد شعبي محتمل قد يلجأ اليه الصدر في تمرير ما يريده في مشروعه السياسي الذي نادى به بعد الانتخابات".
اضف تعليق