الاحتجاج، وحده، على الواقع السيء الفاسد لا يكفي، وانما لابد من تطوير الاحتجاج الى عمل تغييري بناء، ولابد ان ينطلق هذا العمل من تصور واضح للمستقبل، لابد ان يكون العمل التغييري سعيا نحو نموذج يحلم به الانسان، وجدتُ هذا في عدة تجارب تاريخية كبرى...

الاحتجاج، وحده، على الواقع السيء الفاسد لا يكفي، وانما لابد من تطوير الاحتجاج الى عمل تغييري بناء، ولابد ان ينطلق هذا العمل من تصور واضح للمستقبل، لابد ان يكون العمل التغييري سعيا نحو نموذج يحلم به الانسان.

وجدتُ هذا في عدة تجارب تاريخية كبرى، من بينها الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩ والثورة الانكليزية والثورة الاميركية والثورة الروسية وغيرها، في كل هذه الحالات رفع الثوريون لواء الاحتجاج على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي كانوا يعانون منه، وفي نفس كان الثوريون المحتجون يؤمنون بصورة نموذجية للمستقبل المنشود كتبها ونظر لها مفكرون ثوريون عظام مثل جان جاك روسو وكتاب الاوراق الفيدرالية، وحولوها الى شعارات مركزية ترددها الجماهير وتحلم بها.

وبالعودة الى الحالة العراقية، نجد ان اسباب الاحتجاج كانت متوفرة لدى الناس منذ تأسيس الدولة في مطلع القرن الماضي. الى اليوم. ونشأت حركات احتجاجية رفعت شعارات مماثلة لكنها لم تتوصل الى تحقيق ما توصلت اليه الثورة الفرنسية او غيرها من الثورات التي ذكرتها، خاصة على مستوى صورة النموذج المستقبلي.

وكان من اسباب ذلك انها لم تشخص الاسباب العميقة والجذرية الكامنة وراء سوء الاوضاع من جهة، ولانها تحركت في حالات كثيرة انطلاقا من مواقف ايديولوجية تضع قوالب جاهزة للتفكير، من جهة ثانية، فضلا عن انها لم تضع نموذجا واضحا للمستقبل. وهذا ينطبق بصورة كبيرة على الحزب الشيوعي وحزب الدعوة، وهما حزبان ايديولوجيان عقائديان شغلا مساحة كبيرة في الحالة العراقية.

تكرر الامر نفسه في تظاهرات تشرين الاحتجاجية، فرغم انها كانت صرخة مدوية ضد الواقع الفاسد، ورغم ان المرجعية الدينية وصفتها بانها حركة اصلاحية، الان ان الواقع انها وقعت بنفس اخطاء من سبقها في عدم تشخيصها العلة او العلل الاساسية للظواهر السلبية التي جرى الاحتجاج عليها، ولعدم قدرتها على بلورة نموذج مستقبلي، اضافة الى سلبيات اخرى لست معنيا بها الان.

تعود الظواهر السلبية في المجتمع والدولة، مثل الاستبداد والفساد والبطالة والفقر وغير ذلك، الى جملة اختلالات سياسية واقتصادية وقيمية، اطلقت عليها عنوانا عريضا شاملا هو "الخلل الحاد في المركب الحضاري للمجتمع والدولة ومنظومة القيم العليا الحافة بعناصره"، او، بكلمة واحدة: "التخلف الحضاري".

اصبحت افرازات هذا التخلف الحضاري على مختلف المستويات والمجالات معروفة وسببا وموضوعا للاحتجاج. ولا ضرورة لتكرار الحديث عنها والتذمر منها طول الوقت لان هذا لا يضيف شيئا ولا يغير الواقع. وهذا معنى قولي ان الاحتجاج وحده لا يكفي لتغيير الواقع؛ انما المطلوب هو العمل على تغيير الواقع وفق رؤية علمية ومنهجية. والتغيير عملية ذات وجهين: هدم وبناء. هدم الاختلالات الموجودة في المركب الحضاري، واعادة بناء وتركيب المركب الحضاري وفق منظومة معرفية وقيمية جديدة وسليمة. وهذا يتطلب، بعد توفر ارادة التغيير الايجابي وليس مجرد الاحتجاج السلبي، بناء النموذج النظري للمستقبل المنشود. وهنا يكشف رفض البعض للنظرية عن مدى جهلهم بقوانين التغيير.

بعد استبعاد النماذج الايديولوجية التي لا تغني ولا تسمن عن النقاش، لا يبقى امامنا سوى خيارين: خيار التخلف وخيار التقدم "لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ"، خيار الدولة المتخلفة وخيار الدولة الحضارية الحديثة، التي جربت مجتمعات عديدة نماذجها بدرجات كثيرة متفاوتة، وحققت المستوى الممكن من السعادة والرفاهية لمواطنيها.

تتمثل مسؤولية النخبة الواعية في بناء هذا النموذج النظري للدولة الحضارية الحديثة والترويج له لجعله الحلم الذي يتمناه الناس ويعملون من اجل تحقيقه وتجسيده في الواقع، وذلك "لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ"!

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق