الشباب العراقي يعاني من نقطة سوداء عالقة في ذهنه من أثر الحروب والازمات السياسية طيلة عقود من الزمن، تمثل مفهوماً مغلوطاً عن دور الدولة وعلاقتها به، من جهة، وبالمجتمع كله من جهة أخرى، فالتصور الذهني السائد؛ أن الحكومة هي المسؤولة عن توفير كل شيء للمواطن الذي يُعد موظفاً او بصفة متقاعد...
الشباب؛ طاقة، وحماس، واندفاع، يتركون بصماتهم السريعة في أرجاء المجتمع، الى جانب هذا لديهم كمٌ هائل من المشاعر المرهفة وتحسس شديد إزاء كل ما يصطبغ بالسلبية في واقعهم الاجتماعي، فيبدون امتعضاهم الشديد والسريع منه، وهذا ما أجده نتجية للتقاطع ما مفطور عليه الشباب في ذاته وضميره من مبادئ الخير والعمل والعطاء، لذا نجدهم يترقبون نظرات الاعجاب وأيادي التكريم وكلمات الثناء والتشجيع لما يقدمونه، وفي نفس الوقت يسعون لإخفاء السقطات والكبوات في هذا المسعى.
في العراق حيث نسبة الشباب نحُسد عليها بين دول عديدة في المنطقة والعالم، فهي حوالي عشرين بالمئة من مجموع السكان المقدر عددهم اربعون مليون نسمة، وهي نسبة مثالية قياساً بتعداد السكان، مع مواصفات مثالية أخرى في بلد يملك كل امكانات وفرص التقدم في موقعه الجغرافي، وثرواته المذخورة تحت الارض، وثرواته على سطح الأرض، مع قدرات ذهنية وعضلية مشهوداً لها، والأكثر من كل هذا؛ الرصيد الثقافي والحضاري الداعم لهذه الشريحة الغضّة لأن تكون في أفضل حالاتها نحو النهوض والتحول الى واقع أفضل، والمصداق الأقرب لهذا الرصيد؛ الوثبة التاريخية للشباب لمواجهة خطر اجتياح الجماعات التكفيرية والارهابية عام 2014، وما سطروه من ملاحم بطولية، وتقديمهم خيرة الشباب المؤمن شهداء في سوح المعارك.
كيف تكون مكافأة؟!
عندما أسمع المتحدثين عن الاوضاع السيئة في العراق، اقتصادياً وسياسياً، وحتى عن الاوضاع الاجتماعية المحيطة بالشباب، اتذكر فوراً المتحدثين لمن يفقد أباه عن "أن الحياة صعبة وأمامك تحديات فلا أحد يفيدك سواك"، وبين شفتيهم تهديداً يكادوا يبوحوا به بأنه ربما يواجه ذئاب بشرية في قادم الأيام! وفي الوقت الذي لا يجهل هذا المسكين الملكوم هذه الحقائق المرّة في المجتمع، فانه يرى ايضاً القدرات الهائلة والامكانات بحوزة المتحدثين بما يمكنهم من رشف نسمات الأمل والثقة على قلب هذا الملتاع للتخفيف من وطأة الحزن عليه، بل وتهوين المحاذير المستقبلية التي ربما لا تقع.
لا أحد من الشباب اليوم، وهم الأكثر اطلاعاً من أقرانهم ابناء الجيل الماضي بفضل تقنية الاتصال السريع والمجاني (الانترنت)، فهم يلمسون عجز الدولة من المرحلة الابتدائية، وما لا نحتاجه لتكرار معاناة التلاميذ من كل شيء في معظم المدارس –وليس كلها حتى نكون دقيقين-، وفي مرحلة الجامعة والبحث عن فرص العمل، واضحٌ العجز في استثمار الطاقات الشبابية من خريجي الجامعات، فهؤلاء الطلاب باتوا يتركون بصماتهم في الشارع باعتصاماتهم ووقفاتهم الاحتجاجية للمطالبة بحقوقهم في التعيين وفي فرص العمل والعيش الكريم.
تعليق كل الحلول والاسباب على شماعة الدولة ومؤسساتها، هي الاخرى تمثل شحنة سلبية تضاف الى ما قبلها، والدوافع السياسية تبدو واضحة من خلال التغطيات الاعلامية، في حين يفترض من أصحاب الكلمة والرأي والفكرة أن يوسعوا من دائرة الرؤية للشباب ليجدوا فرص التنمية في ميادين مختلفة، ولعل خير من شخّص هذه الاشكالية الثقافية في بلادنا العربية، الكاتب المصري الراحل، أحمد بهاء الدين عندما قال: "إن الدول التي سبقتنا في مضمار النضح السياسي والاقتصادي والفكري، أدركت أن الخلافات السياسية لايجوز أن تحول دون وجود مصالح مشتركة اذا كانت تعود بالنفع على شعوبها، فالحكام يروحون ويجيئون، والسياسات تتغير وتتبدل، ولكن مصالح الشعوب باقية ومستمرة وهي الاساس في كل سياسة، ومشروعات التعمير الكبرى التي تغير الجغرافيا نفسها احياناً هي التي غيرت وجه الحياة على مر الزمن". (شرعية السلطة في العالم العربي).
والمثير للاستغراب في العراق، علم الجميع بأن النظام السياسي القائم هو نفسه بحاجة الى إصلاح جذري فكيف يصلح حال الآخرين، وكيف "يصلح العطّار ما أفسده الدهر"؟ أما اذا ربطنا مصير الشباب وتطلعاتهم بفساد النظام السياسي القائم على أنه أمر واقع، فهي الكارثة المدوية في الحاضر والمستقبل، وسيُدين الشباب في شيخوختهم وما سيجنوه من عواقب سيئة؛ الشريحة المثقفة التي شرعنت هذه العلاقة، قبل إدانة الساسة الفاسدين ونظامهم المحاصصاتي.
حلول عملية
يتميز الشباب العراقي عن سائر أقرانه في البلاد الاخرى بخصائص نفسية، فضلاً عن القدرات الذهنية، بالامكان تسليط الضوء عليها واستثمارها كمقدمة لاستثمار المال في المشاريع الاقتصادية والتنوية، فهذه تمثل القاعدة الاساس لأي نجاح اقتصادي، نذكر منها:
1- الروح الوثابة للعمل والابداع، لاسيما في الجامعات، وقد رأيت هذا عن قرب في كلية الهندسة، وكلية العلوم قسم الحاسبات، وكيف أن الطلاب يبدعون ويخلقون الافكار لاطروحات التخرج بما يدخل في مجالات مختلفة من حياة المجتمع والدولة معاً.
2- الايمان بما يفعل ويخطط له من افكار قبل وبعد الدراسة الجامعية، لاسيما وأن الشاب ينزع الى الاستقلالية في القرار في هذه المرحلة العمرية، ويرغب باختيار تخصص يقتنع به وينسجم مع قدراته وشخصيته، مع وجود مخاطر التقاطع مع رغبات الأهل ورؤاهم الخاصة بهم إزاء مستقبل الابناء.
3- الثقة والاعتداد بالنفس، وهذه ايضاً من ملامح الشخصية الشبابية الطامحة للظهور المتميز.
لا ننسى أن هذه الخصائص ليس بالضرورة تكون في الطريق الايجابي، فالطاقات السلبية موجودة في الشباب كما الطاقة الايجابية، وهنا يأتي دور المؤسسات الثقافية والاجتماعية لصقل هذه الصفات والخصائص النفسية المغروزة في نفوس الشباب وتوجيهها الوجهة الايجابية البناءة، وذلك على خطين متوازيين:
1- التثقيف على العمل الايجابي البناء المفيد لنفسه وللمجتمع، وإثارة مشاعر المسؤولية الاجتماعية، وأنه يشكل الدعامة الاساس لأي تطور وتنمية في بلده، وأن تقدم بلده مرهونٌ بالتزامه وإخلاصه في عمله بمختلف الميادين والمستويات.
2- التمويل لما يبحث عنه الشباب من فرص عمل، صغيرة كان أم كبيرة، ليستغني عن الدولة ومؤسساتها، فالمصارف الأهلية ذات التوجه الانساني البحت مثل "صناديق القرض الحَسَن" والبعيدة عن التوجه المادي، هي القادرة على تحفيز الشباب على العمل في مجال تخصصاتهم، وخوض غمار التجربة، ثم الانتاج، والتسويق، ولنا في ذلك أمثلة عديدة لمشاريع صغيرة متواضعة و بدعم مالي خاص أثبتت جدارتها في السوق، وعندما تقف مؤسسة مالية واجتماعية خلف هذه المشاريع فان المردود سيكون أكبر.
فالمصارف التي تقرض الناس مع فوائد ربوية قاتلة، لن تكون ذات فائدة للمقترض، ولا للاقتصاد الوطني، إنما تزيد من ارتفاع الاسعار والتضخم، لان التفكير يكون منصبّاً على تسديد الفوائد وليس على جودة الانتاج وخدمة المواطنين، بينما صناديق القرض الحسن فانها تعطي القروض دون فوائد، وفي هذا كلام مفصّل عن طريقة التعامل مع المستفيدين و وجود المراقبة والمتابعة لاصحاب المشاريع الانتاجية.
الشباب العراقي يعاني من نقطة سوداء عالقة في ذهنه من أثر الحروب والازمات السياسية طيلة عقود من الزمن، تمثل مفهوماً مغلوطاً عن دور الدولة وعلاقتها به، من جهة، وبالمجتمع كله من جهة أخرى، فالتصور الذهني السائد؛ أن الحكومة هي المسؤولة عن توفير كل شيء للمواطن الذي يُعد موظفاً او بصفة متقاعد من حقه استلام الراتب الشهري باستمرار، لذا حتى القروض التي يستلمها البعض بعنوان التشجيع على مزاولة العمل تذهب الى تلبية حاجات هذا المواطن بعيداً عن العمل والانتاج، فربما تتحول الى سيارة، او بيت، او رحلات خارج البلاد! فلا يمكننا –والحال هكذا- انتظار نتائج المعارك مع الفساد والمحاصصة، واشترار الكلام والشكوى على الوزير او ذاك، في وقت يحتاج الاقتصاد الوطني لنهضة تنموية سريعة وشاملة بسواعد الشباب باختصاصاته العلمية ومهاراته وقدراته، بالابتعاد قليلاً عن قفص الحكومة والدولة والانطلاق في رحاب المجتمع ومؤسساته ورجالاته ممن يعدون انفسهم الأمناء على تطلعات الأمة وحقوقها وآمالها.
اضف تعليق