يعتقد البعض أن يكون القائد ناصحاً لنفسه وللآخرين هي خطوة متقدمة جداً في مسيرة العلاقة مع الجماهير التي يفترضون أن تبدأ هي بإصلاح نفسها وتتخلص من حالات نفسية سيئة مثل؛ الازدواجية، والانتهازية، بل يذهب البعض الآخر الى أخطر من هذا؛ بأن القائد الناجح هو من يوظف هذه الحالات النفسية...
"ولا تقولنّ إني مُؤمّرٌ آمُرُ فأُطاع، فإن ذلك إدغال في القلب، ومنهكة للدين، وتقرّب من الغِيَر".
من وصية أمير المؤمنين الى واليه على مصر؛ مالك الأشتر النخعي
اقترن مفهوم القيادة في بلادنا المأزومة بالقدرات الذاتية لشخص القائد، والعلاقة مع الجماهير وفق بمبدأ المنفعة، وهذا ليس بالضرورة لمن ينثر الاموال على الفقراء، او يوزع الاراضي على الفلاحين وعلى سكان العشوائيات، بل ويشمل ايضاً؛ مسائل معنوية مثل؛ مقاومة المحتل، او الحكم الذاتي، او الانتصار على عدوان خارجي، ما من شأنه رفع درجة الحماس، وايضاً؛ مستوى العلاقة الى درجات عليا تصل الى التضحية بالأموال والأنفس.
ربما تكون الازمات المتعشعشة في بلادنا هي من تسببت في رسم هذه الصورة النمطية عن العلاقة بين القائد والجماهير، وهمّشت دور الجماهير في تأسيس هذه العلاقة، وإعطائها المشروعية والديمومة والنجاح، فأخرجت القيادة كمفهوم وتطبيق عملي من كونه حالة اجتماعية فطرية ناتجة عن علاقة عضوية كما هي علاقة الاغصان بالجذع، او الأب مع أسرته، تتراكم لديه تجارب الحياة مع مواصفات ذاتية قابلة للنمو والتطوير، فقبل أن يفكر بتغيير أحد أو قيادة الناس الى حيث يريد، يكون متسالماً مع نفسه من حيث سلاسة التغيير وقيادته لنفسه وذاته والتحكم بها.
أنت أيضاً؛ بامكانك أن تكون قائداً ناجحاً
لو نظرنا الى بعض تجارب القيادة في بلادنا خلال العقود الماضية، ومنها العراق؛ وجدناها ناجحة في لحظتها الزمنية، بصرف النظر عن المنهج والطريق والنتائج، فالناس –سابقاً وحالياً- ليس بوسعها التطلع الى المستقبل والتكهن بما سيكون عليه الحال في ظل هذه السياسة او ذلك الموقف من القائد (الحاكم)، الذي يحاول الجمع بين حاجة الناس الراهنة في تأمين الحد الأدنى من المعيشة، وتأمين حاجته في تثبيت اركان حكمه من خلال شعارات ووعود تتضمن ما يفكر به المواطن العادي، ولعل هذا يفسّر جزء من ظاهرة التصفيق والتأييد الجماهيري لأي زعيم يقود انقلاباً على زعيم آخر ويحلّ محله في القصر الجمهوري.
بيد أن تطور الفكر السياسي وتطبيقاته على ارض الواقع، شجّع الناس على خوض التجربة السياسية والمطالبة القوية بدور فاعل، ورأي مؤثر في القرار السياسي من خلال الانتخابات وسائر الممارسات الديمقراطية، مما جعل قائد اليوم يختلف عن قائد الأمس بوجود حالة من الحماس لتصدّر المشهد، ليس بالضرورة في المناصب الحكومية العليا بفضل التحولات الديمقراطية الراهنة في البلاد العربية، بل وحتى في ميادين مختلفة، ربما أبرزها؛ الميدان الاقتصادي والتجاري، والمؤسسات الثقافية والاجتماعية.
في الماضي كان همّ القائد يتركز في ذاته، أما اليوم فان على القائد الناجح أن يعطي للناس قبل أن يفكر بالأخذ منهم، علماً أن الرؤية الدينية –الاسلامية لمسألة القيادة سبقت الجميع في تحديد معايير دقيقة لقيادة ناجحة تقيم العلاقة البناءة مع الجماهير بما يخدم الطرفين مع أقل قدر من المشاكل، وبين أيدينا وصية أمير المؤمنين الى مالك الأشتر وهو في طريقه لتسلم ولاية مصر، وقد اقتطفنا باقة مما يفيدنا في صدر المقال، ولكن؛ تراكم الاخطاء والفشل المتواصل في تاريخ الأمة، مع انحرافات شديدة عن الطريق الحق أوصلنا الى ما نحن فيه، ولذا فان "جوهر القيادة ليس الى أي مدى نتقدم نحن، ولكن الى أي مدى نساعد الآخرين على التقدم، وهذا لا يتحقق الا من خلال خدمة الاخرين وإضافة القيمة اليهم"، (12قانوناً لا يقبل الجدل في القيادة- جون ماكسويل).
وفي أدبياتنا الاسلامية كتب الكثير عن مواصفات القائد المحبوب والمؤثر، ومنهم؛ المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابه؛ السبيل الى انهاض المسلمين، عندما خاطب المثقفين من ابناء الحركة الاسلامية مطالباً إياههم بالعمل على تنمية الصفات الحميدة ومنها؛ التواضع والزهد من جملة الصفات الاخلاقية ذات المدخلية في توثيق العلاقة بين القائد وجماهيره.
التجارب في اوساطنا الاسلامية اثبتت من جانب آخر أن تحكيم الاخلاق في العلاقات بين القائد وجماهيره، ومن بينهم شريحة النخبة طبعاً؛ تستجلب له فوائد جمّة ليس أقلها؛ الاحترام والثقة والتفاعل، عندما يشعر الجميع أنهم محترمون ومحل ثقة القائد في أن يجربوا هم ايضاً؛ القيادة في إدارة هذا المسجد، او تلك الهيئة، او تلك المكتبة، او المدرسة، او أي مشروع او نشاط، فما يحققه الافراد من نجاحات هنا وهناك تمثل بالنسبة للقائد رصيداً متراكماً من النجاح في القيادة العامة للمجتمع والامة.
قابلية الإصلاح الذاتي للقائد
مهما بلغ القائد من علو الشأن في عيون وقلوب الجماهير، ومهما كبرت انجازاته التحررية والتنموية فانه لن يكون معصوماً من الخطأ والزلل، وهو ما أدركته الجماهير من الحقائق في الوقت الحاضر بعد أن كان المُحرر والمنقذ من الاستعمار، وحتى رجل الدين الرائد في مسيرة النهضة والتغيير يُعد شخصية متكاملة ونموذجية لا يطالها القدح والنقد.
ولعل تجارب الشعوب مع مآلات الديكتاتورية، وما تكبدته من الارواح والممتلكات الشيء العظيم، هو الذي يجعلها تبحث عمن له القابلية من القادة على مراجعة ذاته، وايضاً؛ الحرص على مراقبة نفسه وتقويمها باستمرار لضمان الأداء الأفضل بما يحقق النجاح في علاقته مع الجماهير.
هذه الخصلة الاخلاقية هي الاخرى لها مدخلية في ميادين شتّى من العمل بالحياة، ولا يقتصر فقط على ميدان السياسة والحكم، فكما يصدق الأمر على الرئيس والوزير والمدير والنائب في البرلمان، فانه يصدق ايضاً على مدير المعمل، ومدير المؤسسة، ورئيس النقابة، "فالناس – يقول جون ماكسويل- يصفحون عن الاخطاء العابرة بسبب القدرة، خاصة اذا كانوا يرون أنك لا زلت تنمو كقائد، وسيعطونك بعض الوقت للارتباط بهم وكسب ثقتهم، ولكنهم لن يثقوا ابداً بمن لديه عيوب في الشخصية فحتى الزلات الصغيرة تكون قاتلة"، وهذا بفضل تجارب السنين التي شهدت الحروب الكارثية والازمات السياسية والاقتصادية المدمرة التي عصفت بالشعوب لمجرد خلل في شخصية القائد، كأن يكون مسكوناً بعقدة الحقارة القادمة من الطفولة، او مسكوناً بالخوف ممن هو أقوى منه، وهاتان تحديداً من أكثر ابتليت به الشعوب مع حكامها في العقود الماضية.
ومن نافلة القول في هذا السياق ما ينقل من أحد علماء الدين ذو الباع الطويل في تدريس العلوم الدينية، ويجلس تحت منبره العشرات من الفقهاء، فجاءهم ذات مرة وهو يدعوهم لاختباره بالأسئلة عن الاحكام الشرعية، وما اذا كان صالحاً للاستمرار في التدريس أم لا؟! فقد أحسّ –كما ينقل عنه شخصياً- بأنه ربما مصاب بداء النسيان "الزهايمر"، فأكبر تلاميذه هذا الموقف، واستصعبوه، وبعد إلحاح منه، اختبروه كما اراد فتبين صحة حدسه، فما كان منه إلا ان تنحى عن التدريس ولزم داره غير عابئ بمنزلته العلمية وعنوانه.
يعتقد البعض أن يكون القائد ناصحاً لنفسه وللآخرين هي خطوة متقدمة جداً في مسيرة العلاقة مع الجماهير التي يفترضون أن تبدأ هي بإصلاح نفسها وتتخلص من حالات نفسية سيئة مثل؛ الازدواجية، والانتهازية، بل يذهب البعض الآخر الى أخطر من هذا؛ بأن القائد الناجح هو من يوظف هذه الحالات النفسية على سوئها ليصوغ واقعاً معيناً، لا أن "يغرّد خارج السرب"، بينما تجارب القيادة لدى الشعوب والأمم تحدثنا عن سابقية صلاح القائد على صلاح الجماهير التي ستجد النموذج الصالح لتحتذي به وتتعلم منه، وفي غير هذا، لن يخسر القائد الصالح شيئاً، لا في حاضره، وهو على طريق الحق، ولا في المستقبل حيث يسجله التاريخ بأنه قائد ناجح بمواصفات جيدة، إنما المشكلة في الجماهير التي خسرته.
اضف تعليق