موقف مرجعي وشعبي غير مسبوق

في خطبة الجمعة التي جرت يوم 7/8/2015 اتخذت المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف أقوى موقف لها ضد الفساد المالي والإداري المستشري في العراق منذ عام 2003، إذ خاطبت على لسان ممثلها في كربلاء السيد أحمد الصافي رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بصورة مباشرة وبطريقة نادرة تعكس مقدار الامتعاض الشديد من الأداء الحكومي المترهل بالقول: "إن البلد يواجه مشاكل اقتصادية ومالية معقدة ونقصانا كبيرا في الخدمات، وعمدة السبب وراء ذلك هو الفساد المالي والإداري الذي عمّ مختلف دوائر الحكومة ومؤسساتها خلال السنوات الماضية ولا يزال يأخذ بازدياد.. بالإضافة إلى سوء التخطيط وعدم اعتماد استراتيجية صحيحة لحل المشاكل، بل اتباع حلول آنية ترقيعية يتم اعتمادها هنا أو هناك عند تفاقم الأزمات". وأضافت: "إن المتوقع من السيد رئيس مجلس الوزراء الذي هو المسؤول التنفيذي الأول في البلد وقد أبدى اهتمامه بمطالب الشعب وحرصه على تنفيذها.. المطلوب أن يكون أكثر جرأة وشجاعة في خطواته الإصلاحية ولا يكتفي ببعض الخطوات الثانوية التي أعلن عنها مؤخرا، بل يسعى إلى أن تتخذ الحكومة قرارات مهمة وإجراءات صارمة في مجال مكافحة وتحقيق العدالة الاجتماعية فيضرب بيد من حديد من يعبث بأموال الشعب ويعمل على إلغاء الامتيازات والمخصصات غير المقبولة التي منحت لمسؤولين حاليين وسابقين في الدولة وقد تكرر الحديث بشأنها"، وتمت دعوة العبادي إلى "إصلاح مؤسسات الدولة، فيسعى إلى تعيين الشخص المناسب في المكان المناسب، وان لم يكن منتميا إلى أيٍّ من أحزاب السلطة وبغضّ النظر عن انتمائه الطائفي أو الاثني ولا يتردد من إزاحة من لا يكون في المكان المناسب وإن كان مدعوما من بعض القوى السياسية ولا يخشى رفضهم واعتراضهم".

إن هذا الموقف من المرجعية هو بمثابة فتوى وإعلان حرب على الفاسدين في العراق، ومطالبة صريحة للحكومة في تصحيح الانحراف واتخاذ خطوات جادة في إعادة النظر في كل سياساتها المعتمدة وإجراء مراجعة شاملة لكل سياسات الحكومات التي سبقتها، كذلك هي مطالبة قوية بضرورة مغادرة المحاصصة الطائفية والاثنية والحزبية في تولي المناصب وتحمل المسؤولية العامة. هذا الموقف المرجعي الثوري جاء بعد سلسلة من المواقف التصعيدية ضد الفساد التي اتخذت في خطب الجمعة السابقة، وترافق مع حراك شعبي متنامٍ تشهده محافظات وسط وجنوب العراق يطالب بالإصلاح والتغيير ومحاسبة المفسدين، بصرف النظر عن الانتماء الطائفي والاثني، مما يدل على غليان اجتماعي لم يعد من الممكن لجمه وتهدئته، فقد وصل التدني في الخدمات العامة والبنية التحتية وضعف الأداء الحكومي والتململ من الفساد الإداري والمالي حدًّا لا يمكن السكوت عليه، وبدأ الناس يساوون بين الإرهاب الداعشي الذي يهدد وجودهم، والفساد الإداري والمالي الذي سرق أموالهم وأفرغ خزينتهم العامة، وعطل مشاريعهم العامة والخاصة في البناء والعمران، وسلط غير الأكفاء على رقابهم، مما أضعف مؤسسات الدولة بشكل عام وجعلها غير قادرة على النهوض بأعبائها في تقديم الخدمات للناس وحفظ هيبة الدولة، فبات مطلب الإصلاح مطلبا شعبيا عاما تتقاسم المطالبة به كل الفعاليات الشعبية بصرف النظر عن الدين والمذهب والقومية. وقد عكست شعارات المتظاهرين مساواة مؤلمة بين الموت ونمط الحياة اليومي الذي يعيشه أغلب المواطنين، وهكذا نقمة شعبية تحتاج إلى تدارك اندفاعاتها والاستجابة الفورية لمطالباتها قبل أن تتحول إلى مستوى لا يمكن التكهن بعواقبه.

خطوة في الطريق الصحيح

إن استجابة السيد العبادي رئيس الحكومة كانت سريعة لتوجيهات المرجعية ومطالب المتظاهرين، فأصدر في 9/8/2015 بياناً بالإصلاحات المزمع القيام بها، وقد تم المصادقة على حزمة إصلاحاته الواردة في البيان في اجتماع مجلس الوزراء المنعقد في اليوم نفسه، وقد انطوت حزمة الإصلاحات على ست فقرات ترتبط بـ"تقليص حمايات المسؤولين في الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية وإحالة الفائض إلى وزارتي الدفاع والداخلية، وإلغاء المخصصات الاستثنائية لكل الرئاسات والهيئات ومؤسسات الدولة والمتقاعدين، وإبعاد المناصب من درجة مدير عام إلى وكيل وزير من المحاصصة الحزبية والطائفية، وترشيق الوزارات والهيئات الحكومية، وإلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ونواب رئيس الوزراء، وفتح ملفات الفساد في الحكومة الحالية والحكومات السابقة من خلال تطبيق مبدأ (من أين لك هذا؟) تحت إشراف القضاء"، وسيتم عرض حزمة الإصلاحات هذه على البرلمان العراقي للمصادقة عليها وإقرارها.

وعند التأمل في هذه الإصلاحات يجد المحلل الموضوعي أنها تمثل ثورة جذرية على قواعد اللعبة السياسية التي حكمت العملية السياسية في العراق منذ سقوط نظام البعث البائد، ومحاولة أخيرة للخروج من المأزق الحرج الذي أوصلت إليه القوى السياسية المتسيدة على المشهد السياسي في العراق مجتمعها، والعبادي ما كان ليجرؤ على اتخاذ هذه الإجراءات لولا شعوره بالطريق المسدود الذي وصلته علاقة الحكومة مع شعبها من جهة، وإدراكه الشديد لمقدار الدعم الشعبي والديني الواسع لأي خطوات تتم في طريق محاربة الفاسدين وإصلاح مؤسسات الدولة، وفعلا حصل على تفويض واضح من المرجعية والشعب للبدء باتخاذ إجراءات جادة في طريق الإصلاح الإداري والمالي والسياسي والاجتماعي في العراق. فما بدأه الرجل يوم 9/8 خطوة كبيرة وجذرية في طريق الإصلاح، وهي خطوة في الاتجاه الصحيح تحسب له، لكنها مجرد خطوة غير كافية لوحدها في تلبية توجيهات المرجعية وطموحات الحراك الشعبي.

المطلوب استراتيجية شاملة للإصلاح

من أجل نجاح العبادي في منهجه الإصلاحي، وعدم وقوعه في شرك الحلول الترقيعية التي حذرته المرجعية منها، فالمطلوب منه عدم الاكتفاء بخطوات إصلاحية ترتبط بتغيير مسؤول ما أو إعادة هيكلة مؤسسة ما، بل من المفيد جدا أن تكون لديه استراتيجية شاملة للإصلاح تشرف على تشكيلها ووضعها وتنفيذها ومراجعتها عقول بشرية تملك المقومات الحقيقية للنهوض بهذه المهمة من كفاءة ونزاهة وقوة وإخلاص واستقلالية، ومن معالم هذه الاستراتيجية الحرص الشديد على تفعيل قانون الخدمة الاتحادي واعادة النظر بقانون الانتخاب وغيرها، وتقليص الفجوة بين الحد الأعلى والحد الأدنى لرواتب الموظفين، وتفعيل دور البرلمان العراقي في تشريع القوانين المعطلة وعلى رأسها قانون الأحزاب وقانون الانتخابات فضلا على إجراء مراجعة شاملة للقوانين النافذة لمعرفة مدى انسجامها مع متطلبات المرحلة واستيعابها لحاجات الناس، واتخاذ خطوات جادة لضمان فعلي لاستقلالية ونزاهة القضاء الذي يحتاج إلى إجراء تغييرات حقيقية وجذرية للشخصيات التي تمسك بزمام إدارته؛ لكونه المرجع الأساس في ضمان حقوق وحريات الناس وتطبيق العدل في المجتمع ومؤسسات الحكومة، وتفعيل دور مكاتب الادعاء العام والمفتشين العموميين وهيئة النزاهة وديوان المراقبة المالية؛ لتأخذ دورها الحقيقي في مكافحة الفساد من خلال وضع إدارتها بيد أناس يتمتعون بالكفاءة والاستقلالية، وإبعاد سطوة الأحزاب والقوى السياسية على مؤسسات الدولة؛ حتى تكون هذه المؤسسات مؤسسات خدمة لجميع العراقيين ولا تكون أسيرة هوى هذا الحزب أو ذاك، وتطبيق معايير المهنية والكفاءة والاستقلالية أيضا في إدارة المؤسسات الأمنية وتوحيد قيادتها وتنظيم عملها ورفع كفاءتها وتنمية قدراتها النوعية والكمية وبما يتناسب مع حجم التحديات التي يتعرض لها العراق، ووضع سياسة عامة لإدارة الدولة تحدد لصانع القرار ما يجب أن يصل إليه بعد خمس أو عشر سنوات أو أكثر؛ لتكون لديه رؤية يمكن أن يعمل في ضوئها ويحكم من خلالها على نجاحه أو فشله، رؤية يستطيع تنفيذها على أرض الواقع ويمنحها للشعب ليؤمن بها.

ومن المهم أيضا أن تكون للعراق سياسة خارجية جديدة تنطلق من وحي التجربة العراقية في الحكم والمصلحة العراقية في التعامل مع دول العالم وتوحيد الموقف الداخلي خلف هذه السياسة، وأن يكون مقياس التعامل مع دول العالم مقدار تحقيقها لمصالح العراق وعدم تهديدها لأمنه العسكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي لا مقدار قربها أو بعدها الديني والمذهبي والقومي.

كما يحتاج العبادي إلى سياسة تعليمية وتربوية واضحة تصب في تنمية المجتمع وتعزز تماسكه وسلمه الأهلي وتحقق حاجات سوق العمل، وإلى خطة واضحة للإصلاح الاقتصادي تترافق مع تحديد دقيق للفلسفة الاقتصادية المعتمدة في البلد، وتوظيف عناصر القوة الناعمة بشكل جيد لتعزيز المصالحة والسلم المجتمعي من خلال توظيف العقول الإعلامية والفنية والمعرفية القادرة على تفعيل دور المؤسسات ذات العلاقة.

ومن المفيد الالتفات إلى الشباب والحرص على تقليص حجم البطالة بينهم وتعزيز اندماجهم المجتمعي ومعالجة مشاكلهم وحاجاتهم الملحة، والاهتمام أكثر بالأسرة العراقية وتعزيز تماسكها ومعالجة مشاكلها، فقوة أي مجتمع تنبع من قوة أسره، ولا خير في مجتمع أسره مفككة تعاني من الضعف والمشاكل. ومن متطلبات الإصلاح الشامل تفعيل آليات المحاسبة والمراقبة داخل مؤسسات الدولة وإجراء محاسبة فعلية وحقيقية وسريعة لكل مسؤول يثبت تورطه في ملفات فساد مالي وإداري، والانتقال من مفهوم الإدارة لمصلحة الحزب أو الفئة أو الأسرة أو الشخص.. إلى الإدارة لمصلحة المواطن، ويكون رضا المواطن مقياسا نهائيا للنجاح في العمل. ومن الضروري عندما يعمل العبادي على تنفيذ استراتيجية الإصلاح الشامل أن يدرك أن من متطلبات نجاحه في مسعاه هو امتلاكه لفريق عمل حكومي يتسم بالانسجام والتضامن والسرعة في اتخاذ القرارات الصعبة والملحة.

الخيار الصائب

إن التحديات التي ستعترض طريق السيد العبادي عندما يعمل على تنفيذ استراتيجيته الإصلاحية ستكون كبيرة جدا، سواء على مستوى البيئة الداخلية أم على مستوى البيئة الخارجية (الإقليمية والدولية)، لكنه لا يمتلك خيارات بديلة، فإمّا يسير في هذا الطريق مستعينا بدعم المرجعية الدينية اللافت وبالإرادة الشعبية المطالبة بالتغيير وبالاكفاء من أبناء شعبه والخبرات الدولية النافعة، أو يبقى يراوح في مكانه منتظرا لمفاجئات قد تهدد العملية السياسية في العراق بمجملها، كما تهدد وحدة وسيادة هذا البلد، ويبدو أن الرجل قد اختار طريق العمل وهو الخيار الصائب لإنقاذ العراق من مستقبل مجهول لا تعرف عواقب تقلباته.

* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
www.fcdrs.com

اضف تعليق