السلطات السعودية الحاكمة، وعلماء المذهب الوهابي هناك، مطالبون اليوم بإعادة بناء هذه القبور، للمحافظة على التراث الإسلامي ورموزه، خاصة أهل البيت وأزواج النبي (ص) وأصحابه الأبرار. كما أنهم مطالبون بالسماح بزيارة هذه المراقد المقدسة في كل وقت وآن لجميع المسلمين القادمين من مشارق الأرض ومغاربها، فذاك مما يثلج صدورهم...
لمصطلح (التقديس) معنيان، أحدهما متعلق بالله عز وجل ومختص به، ومعناه تعظيمه وتنزيه عن أي مخلوق في الوجود. فمعنى (قدَّس اللهَ) أي أنه عظَّمه وبجّله ونزّهه عمّا لا يليق بألوهيّته. والثاني متعلق بالموجودات الأخرى، بناء على طلب من الله عز وجل أو إيحاء من لدنه. فمعنى (قدُس الشّيءُ) أو (قدُس الشّخصُ) أي طَهُرَ وكان مُباركًا. ولا يأتي التطهير والمباركة إلا من الله عز وجل وحده.
ولذلك ليست الأرض عندنا بذاتها مقدسة، أي ليس هناك أرض طاهرة ومباركة، وأرض ليست طاهرة ولا مباركة، إلا إذا طهرها الله وجعلها مباركة، أي طلب منها الله عز وجل أن نقدسها ونطهرها ونتبارك فيها، لأي سبب من الأسباب. كما قال تعالى لموسى عليه السلام (يا موسى… فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى) فقدسيّة الوادي لا تكون لترابه وصخوره وأشجاره، بل للتوجيه الإلهي والعناية الربانية إلى تلك البقعة المقدسة... وينطبق هذا المعنى على بيت المقدس، الذي قال عنه الله تعالى (الذي باركنا حوله) ومكة المكرمة (مثابة للناس وأمنا (والمدينة المنورة التي طاب هواؤها وأرضها وماؤها بفضل دعاء الرسول الأعظم لها، فصار اسمها (طيبة).
وقد تتقدس أرض بقدسية من قُتل على ترابها أو دفن فيها، وهذا أمر واضح وبديهي عند كل المبادئ والشعوب، فالقبور لها حرمتها، وخاصة عند ذويها... فعندما نقول كربلاء المقدسة، أو النجف الأشرف، أو بقيع الغرقد... فإن الأمر بقداسة تلك البقاع واضح وضوح الشمس في رابعة النهار... فعلى تراب كربلاء سُفحت دماء سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة وأبناؤه وإخوته وأصحابه الميامين، وشرب ذاك التراب تلك الدماء الذاكية فتزكى، وارتوى بدمائهم الطاهرة فطهر، واكتنز أجسادهم الشريفة فتشرَّف...
وكذلك النجف الأشرف الذي حوى جسد عظيم الإنسانية، بل أعظم من وطأ الثرى بعد النبي محمد ذاك أمير المؤمنين، وإمام الثقلين أبو الحسنين، الإمام علي بن أبي طالب، ألاّ يحق لها أن تصبح رمزاً للهداية والنور...؟
وهذا وذاك حال تراب أو تربة حوت واحداً من أئمة أهل البيت، فما رأيك بتربة تشرفت بعدة من أهل البيت وخواصّهم الكرام من الهاشميين والعلويين، وأقرب المقربين للرسول الأعظم، بالإضافة إلى أبنائه الأطهار، وزوجاته المؤمنات، وبعض الصحابة الكبار إلا وهي تربة (البقيع) تلك البقعة التي ارتبطت منذ ذلك الوقت وإلى الآن بالنبي وأهل بيته، وحوت من الأجساد الطاهرة ما لم تحوه أية بقعة على وجه الأرض أبداً. فكانت ومازالت ملاذاً لأصحاب الحاجات، ومزاراً للمؤمنين، ومهبطاً للقلوب النقية الصافية، وذلك عبر الأجيال، رغم كل المحاولات الآثمة لإبعادها من الساحة الإسلامية والقدسية الروحانية...
يقول الإمام السيد محمد الشيرازي (الذين دفنوا في البقيع من الأئمة المعصومين والأولياء الصالحين والمؤمنين والمؤمنات بكثرة حيث لم يحصهم التاريخ، والمشهور منهم: الإمام الحسن المجتبى الذي قال فيه رسول الله أنه: (سيد شباب أهل الجنة) والإمام على بن الحسين زين العابدين، والإمام محمّد الباقر، والإمام جعفر الصادق، وكل واحد من هؤلاء الأربعة إمام على كل مؤمن ومؤمنة، وهم من ضمن الأئمة الاثني عشر. وعدد من أزواج النبي وجملة من أصحابه والتابعين لهم بإحسان والعلماء العظام، كما يحتمل أن يكون هناك قبر سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء وقبر الشهيد محسن السقط ابن الإمام أمير المؤمنين).
ويضيف الامام الشيرازي: (ابتدئ الدفن في جنة البقيع منذ زمان النبي الأعظم، وأحياناً كان الرسول بنفسه يعلّم على قبر المدفون بعلامة. ثم بنيت قباب وأضرحة على جملة من القبور من قبل المؤمنين، وبأمر من العلماء. كما كان البناء على قبور الأولياء معتاداً منذ ذلك الزمان، فكانت عشرات منها في المدينة المنورة ومكة المكرمة وحولهما. وقد تلقى جميع المسلمين بكل حفاوة وترحاب هذه الظاهرة الشرعية لا في المدينتين وأطرافها فحسب، بل في سائر بلاد الإسلام، كالهند بما فيها الباكستان وبنغلادش، وكذا العراق وإيران ومصر وسوريا وإندونيسيا وغيرها).
هذه المقبرة يقصدها سنوياً كل الحجاج والمعتمرين بالزيارة تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان يزورها ويخرج ليلاً ونهاراً، ويدعو ويستغفر لأهله. ولذا يشرع لمن قدم المدينة المنورة أن يأتي هذا البقيع ويسلم على أهله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أدعو لهم.
إلا أن الوهابية وأتباعها أتخذوا دينا غير دين الإسلام، وإن تظاهروا به، ومنهجا غير منهج الرسول (ص) وإن تفاخروا بسنته، وأثرا غير ما سار عليه المسلمون، وإن أعلنوا المحافظة عليه، فقرورا إزالة العشرات من آثار رسول الله وآله الأطهار، وأصحابه الكرام باسم توسيع مسجد النبي (ص) وهو أمر غير عقلائي وغير شرعي، بل تضييع للتراث الإسلامي والتاريخي.
يرى الإمام محمد الشيرازي (إن لتلك الآثار دلالات للبشرية ومقومات للهداية، بالإضافة إلى أنها من أحسن الذكريات لا الذكرى فقط.. والدنيا بأجمعها تحتفظ بالآثار بكل أنواعها، حيث أن العقل والعرف يدلان على حفظها، ولا يكون ذلك خلاف الشرع الذي يصرح بالمرور في ديارهم والنظر إلى آثارهم، وقد قال القرآن الحكيم: (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل) وقال تعالى: وإنها لبسبيل مقيم) فان حفظ آثار العذاب عبرة، فكيف بآثار الصالحين.. وكيف بالنبي العظيم، والأئمة الطاهرين، والأصحاب المكرمين، وهكذا بالنسبة إلى المؤمنات الطاهرات...
ومن هنا حفظ عقلاء العالم أهرام مصر، وان كان فيه نوع من إحياء الآثار الفرعونية. وحفظوا موضع عبور موسى البحر، ومحل إحراق إبراهيم، ومسجد أصحاب الكهف، وغار حراء، وغار ثور، وغيرها. هذا بالإضافة إلى وجود المعنوية في تلك الأماكن، كيف لا وقد قال سبحانه: (فقبضت قبضة من أثر الرسول) فإن كان تراب حافر فرس جبرئيل له ذلك الأثر الخارق الذي سبب الخوار في العجل الجسد، أفلا يكون لتلك الآثار الكثيرة البركات العظيمة؟).
لذلك فنحن إنما نقدس مقبرة البقيع للأسباب الآتية: -
1. إن الله جعل لأوليائه، لاسيما أهل البيت(ع) وزوجاته، وأصحابه الصالحين مقاما عظيما في الدنيا، ومقاما رفيعا في الآخرة. فوجب علينا احترام محل أجسادهم الطاهرة والتبرك بها قربة على الله تعالى.
2. إن الرسول الأكرم كان في حياته قد علم بعض القبور، ودل عليها في إشارة إلى الاهتمام بها لعظمة تلك الأجساد الطاهرة أولا، ولكي يتمكن أهلهم وأحباؤهم ومؤيدوهم من زيارتهم، والتقرب إلى الله بهم، فهم خير واسطة لله عز وجل.
3. إن هذه القبور هي في غالبيتها قبور لأهل البيت وأئمة المسلمين ممن أوصى الله بصلتهم وبرهم، والاقتداء بهم، والولاية لهم، وليس هناك بر أفضل من زيارتهم.
4. إن هدم هذه القبور بحجة توسيع المسجد ليس فيها أي دليل شرعي أو عقلي، فالناس يتوقون إلى التبرك بالأولياء الصالحين، لاسيما أهل البيت عليهم السلام.
5. إن الله حفظ لنا أثار بعض الظلمة وعبادة الحجارة والأوثان والمشركين لكي يكون لنا عبرة وعظة، فكيف بآثار الأولياء والصالحين التي تزيد الناس في التقرب من الله واللجوء إليه.
لذا فان السلطات السعودية الحاكمة، وعلماء المذهب الوهابي هناك، مطالبون اليوم بإعادة بناء هذه القبور، للمحافظة على التراث الإسلامي ورموزه، خاصة أهل البيت وأزواج النبي(ص) وأصحابه الأبرار. كما أنهم مطالبون بالسماح بزيارة هذه المراقد المقدسة في كل وقت وآن لجميع المسلمين القادمين من مشارق الأرض ومغاربها، فذاك مما يثلج صدورهم، ويقوي عزيمتهم.
كما أن هذه الآثار الإسلامية ليست حكرا على مذهب دون مذهب، أو جماعة دون جماعة، فالمدينة المنورة، كما هي مكة المكرمة، كما هو قبر النبي أرض كرمها الله بأجساد أولياه، فالأحرى بمن ملك مقاليد الحكم فيها أن يجعلها مكرمة كما كرمها الله تعالى، لا يعمل على طمسها وإخفاءها، كأنها أرض عار، فتوجب عليه محو آثارها.
اضف تعليق