الحقيقة إن مجتمعا شرقيا يضرب الاستبداد في أعماقه لا يستطيع أن يفكر ويسلك ديمقراطيا بدون رعاة وحماة لهذه الديمقراطية، الديمقراطية في العراق معبد بلا كاهن، في ما سبق كان ثمة مهندس او مهندسون يرسمون طريق الحل ويحلحلون الصعوبات ويصنعون التسويات بطريقة الاسترضاء وتوزيع المغانم وكرم العطاء، الآن لا النخبة قادرة...
في ما مضى من السنوات العاصفة بعد عام 2003، كان العالم يراقب كيف تتم هندسة الحكم في العراق؟ كثيرون خارج العراق اعتقدوا أن العراقيين يتعلمون ابجديات الديمقراطية بصعوبة، لكنهم يسيرون على الطريق الصحيح، فلا خيار لادارة البلد في ظل التعقيد الشديد في بيئته السياسية سوى بناء نموذج (ديمقراطي) يناسب العراق، باعتبار أن نماذج الديمقراطية مختلفة ومتعددة رغم اتفاقها في الجوهر والمبادئ العامة، التي من ركائزها السيادة للأمة وحرية الاختيار للفرد، والتعددية السياسية والحزبية والقبول بثنائية الأغلبية والأقلية السياسيتين.
بعد خمس دورات انتخابية، يكاد العراق يعلن فشل أنموذجه الديمقراطي وينتظر من يمد له يد المساعدة بأفكار جديدة، فقد بات السياسيون يعلنون بأن العقد الاجتماعي- السياسي الذي أنتج الجمهورية الجديدة يعاني من ثغرات وانسدادات، وأن المشكلات السياسية تتناسل في العراق بطريقة يصعب عبورها وتجاوزها.
ما الحل؟ يختلف العراقيون بطبيعة الحال في مشروع الجواب، البراعة كانت واضحة في تشخيص علل الأزمة والعقدة التاريخية التي تنتجها، إنما الفشل كل الفشل، كان ولا يزال في تخطيط سبيل العلاج لهذه الأزمة التاريخية المستعصية، اليأس يدفع ببعض العراقيين إلى القول نحن أمة يصعب قيادها ولا مناص من مستبد يحمل (العامة والخاصة) على الخضوع لمقتضى السلطة!! (العودة إلى نموذج المستبد العادل)، فريق آخر يرى أن العراق ليس عقيما عن أن يلد فكرا ويسلك طريقا توصله إلى مرفأ السلامة، انتظروه واعطوه الفرصة، لدينا عقلاء ومفكرون ومثقفون ونخبة متعلمة وستستطيع هذه (الأقلية المبدعة) اجتراح الحلول لكل المشكلات، المهم أن تثقوا بانفسكم وتسلموا القياد لهذه الفئة التي لن تخذل العراق وتخون الأمانة!، بيد أن أفكار المثقفين وأطروحاتهم لا تصلح لمعالجة مشكلات معقدة! لماذا يقول مفكر شفاهي عميق: إن المثقف العراقي يتمسك بالمثال ويحيل على نماذج معيارية، هي أشبه بالمخططات الهندسية، ويضرب مثالا بتفسير ابن خلدون لعدم نجاح رجال الدين في ادارة السلطة في العصر الاسلامي الوسيط، إنه يقول لا سبب غير تمسك واعتياد هؤلاء على الكليات العامة ولا خبرة لهم بالتفاصيل والجزئيات.
عالم السياسة هو عالم القضايا الصغيرة التي ينتجها واقع كثير التعقيد، عندما يتحدث المثقف عن المعايير والقوالب الجميلة، يكون الكلام جذابا من الناحية النظرية، لكن لا حظوظ لتطبيقه في عالم الواقع، خذ الحديث عن السيادة واحتكار الدولة للسلاح والفيدرالية، المثقفون يتحدثون عن عمومياتها ومعاييرها، غير أن السياسيين يختبئون وراء مصالحهم في ثنايا عناوينها العامة وتغدو السيادة والفيدرالية وحق المشاركة في السلطة او البقاء في المعارضة مشكلة بذاتها وليس في تعريفاتها.
فريق ثالث يرى أن واقع الحال غير المثالية التي يفكر بها المثقفون والمنظّرون، الوقت لا يحتمل المزيد من الهدر، والأمة لا يسعها الانتظار طويلا، لا بد من حكومة فاعلة وسلطة قادرة على الفصل والحزم والتدبير للشأن الأمني والاقتصادي والإداري، فالزمن المهدور يراكم من الأزمات والمشكلات ما لا تستطيع معالجته اي سلطة ناجحة إلا بشق الأنفس وصبر ايوب وجلد الصحابة في غزوة تبوك!، فمن أين لنا بأمة تستطيع الصبر والانتظار وباب الاحتجاج والاعتراض صار مفتوحا على مصراعيه، وسبيل الضغط على الحكومة يتعلمه الصبيان بلا تنظيم حزبي ولا منشورات تطبع بطريقة سرية، الأمر لا يحتاج إلى أكثر من تظاهرة يدعو لها متحمس غاضب عبر وسائل التواصل الاجتماعي وقليل من البنزين وإطارات مستعملة، تشعل حريقا يمنع الوصول إلى حقول النفط أو المصافي او محطات الكهرباء أو يقطع طريق السابلة والمركبات.
إنها محنة تقتات على القنوط واليأس من المجتمع السياسي، هذا المجتمع متعالٍ، مكتف بذاته وعقله، لا يريد الانفتاح على الآخرين ولا يستمد منهم العون ولا يريد أن يلتقط ما تعصفه العقول من أفكار ومخططا. أرايت جماعة او كتلة سياسية أقامت ورشة أو استضافت عقولا مفكرة أو جمعت اهل النظر للتشاور والتشارك في الرؤى والأفكار، إنهم ناجحون في تجميع اتباع يقولون لهم رأيكم صحيح وما وراءه ينهار الوطن وتفسد القومية وتتشتت الجماعة ويستولي الآخرون على الدين والمذهب.
الحقيقة إن مجتمعا شرقيا يضرب الاستبداد في أعماقه لا يستطيع أن يفكر ويسلك ديمقراطيا بدون رعاة وحماة لهذه الديمقراطية، الديمقراطية في العراق معبد بلا كاهن.
في ما سبق كان ثمة مهندس او مهندسون يرسمون طريق الحل ويحلحلون الصعوبات ويصنعون التسويات بطريقة الاسترضاء وتوزيع المغانم وكرم العطاء، الآن لا النخبة قادرة، ولا المثقف واقعي ومعترف بعقله وعطائه، ولا المرجعية تفتح أبوابها وتغدق بالحلول والمقترحات كما كانت، ولا طهران وواشنطن متفقتان ضمنيا وعبر الرسائل غير المباشرة، العراقيون يواجهون لحظة الحقيقة ويختبرون قدراتهم الذهنية والعصبية، وفي كل ذلك نواجه تصلبا سياسيا ورفضا للحلول الوسط، بل إن هذه الحلول ليست في متناول أحد. لأن السياسيين غير مضغوطين وما زالوا يراهنون على عامل الزمن وكل واحد منهم ينتظر مفاجأة من الشارع تكون لصالحه، كأنه غير معني بالتعطيل ولا مسؤول عما يكابده الناس من عناء.
اضف تعليق