يعد مؤشر حجم الإنفاق الحكومي من الدلائل التي تظهر مقدار التدخل الحكومي في النشاط الكلي. وهو يمثل في مورد الإنفاق الاستثماري وبعض جوانب الإنفاق الاستهلاكي ضمن سياسات معينة حجم تدخلها في النشاط الاقتصادي، ويرتبط ذلك الإنفاق في اغلب الأحيان بعلاقة طردية مع حجم النمو الاقتصادي كونه في الشكل الاستهلاكي يكون الطلب الحكومي جزءا فعالا وأساسيا من الطلب الكلي، ومن جانب آخر يساهم برفع مستوى الطلب الخاص المكون الآخر من الطلب الكلي عن طريق رفع الرواتب والأجور والإعانات الاجتماعية وغيرها.
وبتالي تتجلى العلاقة الطردية المشار إليها في تحفيز الطلب الكلي، فالاستثمار، فالإنتاج والاستخدام، فالطلب على عناصر الإنتاج، ثم ارتفاع عوائدها بعدها يرتفع الطلب الكلي من جديد وهذا يسمى اقتصادياً أثر (المضاعف).
كما تزداد الحاجة إلى رفع الإنفاق الحكومي في ظل الاقتصاديات المستقرة عند ظهور بوادر الأزمات المتمثلة بقصور الطلب الكلي عن العرض الكلي، فيلعب الإنفاق الحكومي من خلال فكر المضاعف الدور الأساسي في إعادة التوازن بين الطلب والعرض الكليين حسب الآلية المشار إليها وتجري تلك التفاعلات في ظل اقتصاديات ذات طابع متوازن تمتاز بالاستقرار.
لكن في أدبيات اقتصادنا العراقي الذي يعاني من اختلال هيكلي افقده القدرة على الاتساق والتوازن مؤشراً ضعفا كبيرا في إطار التنسيق بين السياسات الاقتصادية الثلاث الكبرى (النقدية والمالية والتجارية) ناهيك عن السياسات الفرعية الأخرى، الأمر الذي افقد تلك السياسات فاعلية أدواتها في تحقيق الاستقرار ودفع عجلة النمو الاقتصادي إلى الإمام..
ومن هنا نلاحظ الإرباك الشديد في عمل السياسة المالية للحكومة، فبالرغم من حجم الواردات المتحققة من مبيعات البترول والتي قابلها حجم إنفاق عام يوازي تلك الإيرادات، لكننا لم نشهد نهضة تنموية توازي ذلك التوسع الانفاقي، ناهيك عن ضعف التخصيص الاستثماري في الموازنة العامة...
ومن هنا انطلقت فلسفة الإصلاح الاقتصادي التي يتبناها صندوق النقد الدولي في الإطارين (التثبيت والتكييف) للدول المشابهة للعراق، حيث ان لعدم وجود جدوى اقتصادية من التوسع في الإنفاق الحكومي، ناهيك عن فلسفة اقتصاد السوق التي تعتبر المنطلق له، لذلك ركز الصندوق على ترشيد الإنفاق مقابل رفع الإيرادات الحكومية ورفع كل أشكال الدعم الحكومي، بالإضافة إلى ترشيق القطاع العام من حيث عدد العاملين وغيرها من سياسات ترشيد الإنفاق..
بشكل عام ان وضع الموازنة للحكومة وبالخصوص الجانب الانفاقي تعاني من اختلال هيكلي، فبالرغم من الارتفاع النسبي إلا انه صنع جملة من الآثار غير المرغوب بها كونه مرافق لعملية توزيع غير متوازنة صنعت فوارق طبقية ذات انعكاسات سياسية واجتماعية كارثية، بالإضافة الى الإسراف في الإنفاق التشغيلي للوزارات العراقية والامتيازات غير المبررة للقيادات العليا في السلطة...
وبالتالي لم تأخذ تلك الأموال طريقها الى الخطط التنموية لتحقيق نهضة اقتصادية كبيرة، كما يمكن تأشير جملة من الملاحظات على سياسة الحكومة المالية في الإطار الانفاقي، من قبيل ارتفاع كلفة المشاريع العامة قياساً للكلفة السوقية، على سبيل المثال مدرسة او مستوصف صحي صغير كلفته السوقية قد لاتتجاوز في اعلى حالاتها (300) مليون دينار عراقي نلاحظ احالتها الى التنفيذ بكلفة قد تصل الى المليار والنصف دينار عراقي.. وغيرها الكثير من الأمثلة، بالإضافة الى تبديل الأثاث والسيارات بشكل سنوي بالنسبة للوزارات، وطبع المناهج الدراسية كل سنة دون الاعتماد على المخزون وتكاليف السفر والايفادات لموظفي القطاع العام، حجم الدعم غير المجدي لبعض القطاعات والمشاريع غير الناهضة مثل ما يسمى بالمبادرة الزراعية، كذلك البطاقة التموينية.
ويمكن الإشارة الى الآفة الكبرى التي بعثرت أموال العراقيين يميناً وشمالاً الا وهي الفساد المالي الذي يفتك بكل فكرة تنموية، ويبدد كل رؤية إصلاحية، والذي نتصدر دول العالم بحجمه. ومن هنا وبالرغم من سياسات الترشيد للسنة المالية الحالية، والنابعة عن ضغوط انخفاض سعر برميل النفط عالمياً والتي نسمع بها مثل خفض المشتريات الحكومية وتقليص عدد سيارات مواكب المسئولين وغيرها والتي لا تنبع من توجه فلسفي إصلاحي حقيقي وإنما من ضغوط ظرفية ليس إلا... أما تخفيض رواتب القادة في الدولة العراقية بالرغم من انه يثار للمرة الثانية والهالة الكبيرة التي أحيطت به.. نعم يعد ترشيدا لكن كم يحقق توفيراً للموازنة، قياساً للأبواب المشار إليها؟
إذا هي خطوة يجب ان تتبعها خطوات أخرى أكثر اتساعا تعبر عن توجه إصلاحي مستند الى رؤية واضحة من قبيل:
1 - رفع الإنفاق الاستثماري على حساب الاستهلاكي.
2 - إعادة النظر وإتباع معايير واقعية في تحديد كلف المشاريع العامة.
3 - إتباع استراتيجية وطنية واضحة لمواجهة هدر المال العام.
وغيرها من الإجراءات لإصلاح السياسة المالية لكي تشكل ركناً أساسياً في عملية تنموية شاملة.
فالحكومة كما عبر عنها العالم الاقتصادي (كينز) هي صاحبة القدم الثقيلة في الاقتصاد ومع وضع اقتصادي حكومي كالذي نحن فيه لن تنجح أي سياسة تنموية...
اضف تعليق