الخلاف الحالي بين الطرفين الشيعيين حول الحكومة لا يتم في إطار حضاري. فسواء قلنا بحكومة الاغلبية ام حكومة التوافقية فان الامر يدور فقط حول احدى مفردات الدولة. والدولة امر واسع لم يتم الاتفاق على نموذجه بين الطرفين الشيعيين المتخاصمين، وكلاهما لا يملكان رؤية حول بناء الدولة...
الخلاف الحالي بين الطرفين الشيعيين حول الحكومة لا يتم في إطار حضاري. فسواء قلنا بحكومة الاغلبية ام حكومة التوافقية فان الامر يدور فقط حول احدى مفردات الدولة. والدولة امر واسع لم يتم الاتفاق على نموذجه بين الطرفين الشيعيين المتخاصمين، وكلاهما لا يملكان رؤية حول بناء الدولة الحضارية الحديثة. فلا الوثائق المكتوبة ولا التصرفات اليومية توحي بانهما يحملان هذه الرؤية والايمان بها. ولا جدوى من الحديث عن "الحكومة" قبل اتمام الحديث عن "الدولة"، وهو حديث لم يبدأ بعد.
حكومة الاغلبية تشكل في دولة مواطنة، وحكومة التوافقية تشكل في دولة مكونات، وسواء اختار الناس الصيغة الاولى ام الثانية فان ايا منهما يمكن ان تكون دولة حضارية حديثة، او قد تكون دولة سلطانية تقليدية. والامر غير محسوم بين الطرفين لانه غير مطروح للنقاش بينهما.
الطرفان الشيعيان المتنافسان ضيعا بوصلة الدولة. فلا الداعين الى حكومة الاغلبية يفهمون دولة المواطنة حق الفهم، ولا الداعين الى التوافقية يفهمون دولة المكونات حق الفهم. لنأخذ اليابان نموذجا للدولة الاولى، وسويسرا نموذجا للدولة الثانية لنكتشف ان الحياة السياسية في العراق ليس فيها شبه من الحياة السياسية في اليابان او سويسرا.
الدولة الحضارية الحديثة تقوم على اساس منظومة قيم حضارية عليا تشكل مؤشرات السلوك بالنسبة للفرد والمجتمع والدولة في مختلف المجالات وبخاصة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية وغيرها. كما تقوم على عدة ركائز تأسيسية هي: المواطنة والديمقراطية وسيادة القانون والمؤسسات والعلم الحديث. وبالنظر الى طروحات وممارسات الطرفين الشيعيين سوف نجد انهما بعيدان فكرا وممارسةً عن هذا التصور الموجز للدولة الحضارية الحديثة.
ان لدولة المواطنة اشتراطات معينة، ولدولة المكونات اشتراطات اخرى خاصة بها، ولكي يكون اي من النموذجين حضاريا وحديثا يجب توفير اشتراطات الدولة الحضارية الحديثة. ولكن الطرفين الشيعيين لم يوفرا، كل في مجاله، الاشتراطات الخاصة بنموذجه للحكومة، اي الاغلبية او التوافقية، ولا الاشتراطات المتعلقة بالدولة الحضارية الحديثة، فجاءت طروحاتهما وممارساتهما خليطا هجينا، او كما أطلق عليه السيد مقتدى الصدر، "خلطة العطار"، وهي خلطة غير منتجة في اي مجال اعتمدت.
دولة المواطنة المنتجة لحكومة الاغلبية تتطلب نظاما سياسيا قائما على اساس الانتماء الى الوطن، وليس الانتماء الى الطائفة او القومية، وهذا ما يشكل الحد الادنى من الاجماع الوطني او الهوية الوطنية. وهذا غير متوفر حاليا، فالاطراف الداعية الى حكومة الاغلبية أطراف طائفية وقومية محصورة (شيعة، سنة، كرد) وليست منفتحة تنظيميا على المواطنين بغض النظر عن الانتماء الطائفي او العرقي. كما انه غير متوفر لدى الطرف الداعي الى التوافقية لان المعادلة المكوناتية مختلة الى درجة كبيرة، ولا يمكننا ان تنتج حكومة توافقية على غرار نظرية ارندت ليبهارت منظر التوافقية الاول.
هذا يعني ان الصراع بين الطرفين الشيعيين لا يمت بصلة الى فكرة بناء الدولة نفسها، لان الفكرة غائبة عن فكر وممارسات الطرفين معا. ولو كان النقاش دائرا حول الدولة نفسها، بأفق الوصول الى فكرة الدولة الحضارية الحديثة، لامكن اتفاقهما على هذه الاطروحة، بشرط توفر النوايا الحسنة والقدرة على الفهم. ولو تم ذلك لامكن التوصل الى اتفاق بينهما حول مسألة تشكيل الحكومة، لان الاتفاق حول الاصل يجعل من السهل الاتفاق على الفرع. والاصل هو الدولة والفرع هو الحكومة. لكن هذا الامر غير متوفر بسبب نقص الفهم وسطحيته بغض النظر عن النوايا. لذلك فان الخوض في الصراع الحالي حول الفرع (اي نوعية الحكومة) غير منتج ومضيعة للوقت والجهد، ما لم يتم الاتفاق الجماعي حول الاصل (اي الدولة).
اضف تعليق