الانسان الجامد يكون حجر عثرة أمام كل انطلاق، حيث يعلم الجامد أنه لو حدث في المجتمع حركة وتيار، لابد وأن يجرف الجامد، لذا تكون المؤسسات والموظفين سداً امام تقدم الاجتماع وتكامله، من ناحية أخرى تفرض الفردية والانانية على الحكومات الحاضرة –مهما كان لونها ديمقراطية او غيرها- تكثير الموظفين...
المآل المحزن لواقع الدولة العراقية في الوقت الحاضر يدفعنا لاختيار عنوان كهذا رغم عدم واقعيته وانطباقه مع افتراض وجوده المؤكد ضمن علاقة ودّية ومتجانسة بين الدولة والمجتمع.
منذ انهيار النظام السابق، مع ملحقاته من مؤسسات الدولة الديكتاتورية، ونمط الحكم الفردي، والعراق ماضٍ في طريق اللادولة رغم وجود المؤسسات الدستورية في ظاهر الحياة السياسية، ودفع المجتمع بأسره لتقبل هذا الواقع الفاسد، والى الآن، صار مستساغاً لدى الجميع عدم وجود وزارة، مثل وزارة الداخلية او الدفاع في أعوام خلت، او عدم وجود حكومة بعد اجراء الانتخابات البرلمانية، رغم مرور أشهر عدّة؛ أو عدم وجود موازنة للعراق طيلة أشهر عديدة! فالحياة العامة تجري بانسيابية؛ الطلاب في المدارس والجامعات، والموظفون في دوائرهم، وحركة السوق والتجارة طبيعية هي الاخرى، كما أن الأمن مستتب في كل مكان، ولا مشكلة تذكر على صعيد الواقع.
لماذا الانسداد السياسي؟!
يدّعي الساسة في العراق أنهم يطبقون النمط الديمقراطي في الحكم بعد انهيار النظام الفردي لصدام، وأنهم يعملون في ظل وجود مؤسسات دستورية مثل؛ البرلمان والحكومة وهيئات رقابية، بيد أن الفشل في توثيق العلاقة بين هذه المؤسسات وبين افراد المجتمع ومؤسساته تمخض عن حالة انفصام، ثم فقدان الثقة المتبادلة، علماً أن هؤلاء الأفراد هم الذين منحوا الشرعية للدستور بالتصويت عليه عام 2005، ثم أصواتهم مرة أخرى لمن يفترض ان يكونوا نواباً عنهم في البرلمان تصديقاً لمقولة النظام البرلماني الذي تسالم عليه جميع الطامحين الى الحكم من شيعة وسُنة وكُرد، مفضلين إياه على النظام الجمهوري غير المرغوب به والذي بات يذكرهم بنظام صدام!
ولو راجعنا تاريخ الانظمة الديمقراطية في الغرب، وكيف تشكّل النمط الديمقراطي هناك، لعرفنا سبب الفشل في العراق، ففي بريطانيا تشكل النمط بعوامل عديدة منها؛ العامل الاقتصادي والتجاري، ويعود الأمر الى القرن الحادي عشر عندما صعد نجم البرجوازيين على حساب الاقطاعيين وأصحاب الاراضي الزراعية، وفي مسيرة طويلة من الكفاح المرير تكونت الطبقة المتوسطة في المجتمع البريطاني مبشرة بعقيدة اقتصادية جديدة هي: "الربح"، لتحل محل "الخدمة" في القاموس الاقطاعي، فقد تمكن البرجوازيون من تحقيق وجودهم في الساحة السياسية آنذاك من خلال ثمانية ملايين "جزّة خروف" كانت تصدرها انكلترا الى الخارج، فيما لم يكن يتعدى سكان البلاد اكثر من ثلاثة ملايين نسمة، فوجد نبلاء الأرياف الذين كانوا يهتمون بتربية الماشية، أن مصالحهم الطبيعية مرتبطة مع البورجوازية التاجرة، فحلّ المفهوم الرأسمالي للربح محل المفهوم الاقطاعي للخدمة، لذا يمكن القول أن "الخروف ولّد الديمقراطية الحديثة"، (المؤسسات السياسية والقانون الدستوري- موريس دوفرجيه).
هذا المعيار يكشف لنا عوامل فشل النمط الديمقراطي في أي بلد بالعالم، ومنها العراق، علماً أن الطبقة المتوسطة في أي مجتمع ليس فقط تضخ الحيوية وتضمن نجاح الديمقراطية، بل تأخذ على عاتقها دفع البلاد الى مراقي التقدم، وفي الوقت نفسه تكون العين الساهرة على أية خروقات في كيان الدولة، وفي مقدمتها؛ الفساد والمحاصصة، بينما يكون الأمر في غاية السهولة والانسيابية عندما تكون الدولة قائمة على طبقة ثرية وأخرى فقيرة بشرعية ديمقراطية لتشكل مصداقاً حيّاً لمقولة "العصا والجزرة"، حيث الفقراء لا يفكرون سوى بلقمة العيش ويبحثون عنها أينما كانت، ولا يهم ماذا يفعل الاثرياء والمتنفذون.
فعندما تكون البنية التحتية للنظام السياسي قائمة على المصالح الخاصة لفئات او جماعات، وليس على العمل والانتاج والمصلحة العامة، فمن الطبيعي أن يجلس الساسة من مختلف المكونات والانتماءات مرتاحي البال يناقشون الصيغ المفترضة، او الخيارات المطروحة لتقاسم مرضٍ للسلطة بدعوى الالتزام بمفردات ديمقراطية مثل؛ "الاغلبية" التي يفترض ان تكون في خدمة من يمثلونها من افراد الشعب، بينما العكس هو السائد؛ فالناس هم الذين يخدمون الساسة بتوفير القدر الكافي من الشرعية لهدر الوقت في ظل غمامة الفقر والبطالة وارتفاع الاسعار.
والسبب في ذلك "جمود المجتمع، لأن الانسان الجامد يكون حجر عثرة أمام كل انطلاق، حيث يعلم الجامد أنه لو حدث في المجتمع حركة وتيار، لابد وأن يجرف الجامد، لذا تكون المؤسسات والموظفين سداً امام تقدم الاجتماع وتكامله، من ناحية أخرى تفرض الفردية والانانية على الحكومات الحاضرة –مهما كان لونها ديمقراطية او غيرها- تكثير الموظفين، حيث أن الديكتاتور لا يتمكن ان يعيش إلا في جو خانق للناس ليبدي شخصيته وقدرته" (الفقه السياسة- المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي).
هل من خروج الى سبيل؟
علمتنا التجارب أن مجتمع تحكمه القيم يهابه الحاكمون مهما أوتوا من قوة عسكرية ومالية ومخابراتية ودعائية، لأن التضحية، والتعاون، والتكافل، والتسامح وغيرها من القيم قادرة على مواجهة الترهيب والترغيب، ومن ثمّ يكون القرار السياسي بيد الشعب، او على الاقل يكون مؤثراً فيه بدرجة كبيرة، أما اذا كان المال بديلاً عن القيم في أي مجتمع وشعب فان مصيره الى تطبيق سياسة "العصا والجزرة"، والمآل الأخطر؛ اندماج المال مع السلطة، فتضيع الحقوق، وتنتهك القوانين والدساتير كما يحصل في العراق اليوم وبكل سهولة.
العلماء قدموا "ضمانات إسلامية" لإبعاد المال كقوة قاهرة عن السلطة من خلال التوزيع العادل للثروة، والقضاء على احتكار الأرض لفئات معينة في المجتمع، وضبط التجارة الخارجية حتى لا يكون التصدير والايرادات بالعملة الصعبة في جيوب شريحة محدودة من الناس، أما الضمانة الأهم والأكثر تأثيراً في الواقع؛ رفع مستوى الناس علمياً واقتصادياً، "فمن الناحية التاريخية ثبت أن المجتمعات التي تحكمها الديكتاتورية ويتسلط عليها الاستبداد، هي المجتمعات الاقل وعياً والأكثر فقراً، فاذا ارتفع مستوى الجماهير الى حد معين من الوعي والرفاه الاقتصادي، فان قدرة اصحاب المال والثروة على التسلّط والاستغلال تتلاشى". (قيم التقدم في المجتمع الاسلامي- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).
ولعل هذا يفسّر سبب تشجيع الانظمة الديكتاتورية على الاستهلاك والانفاق بلا حدود على اقتناء السيارات الحديثة، والملابس، والعطور، والحثّ على افتتاح المطاعم والمقاهي وكل ما يمتّ بصلة الى الطعام والشراب، بدلاً من مشاريع انتاجية توفر عملة صعبة للبلد، وتوفر فرص عمل للعاطلين، ولا أدلّ على ما نلاحظه في العراق من ظاهرة الشراء غير الطبيعي لاجهزة الموبايل بمواصفاتها المتجددة باستمرار، والاهتمام بالديكور والمظاهر الجميلة للبيوت والمحلات وحتى ما يتعلق بمستحضرات التجميل، كل ذلك يمثل استنزاف مريع للجيوب بما يجعل المواطن أشبه ما يكون الى مدمن متعلق بروحه وكيانه الى ما يسكّن حاجته الى المخدّر، فهل تبقى له قدرة على التفكير بأشياء بحجم البرلمان، او القوانين، او الدستور، او ثروات البلد، وعلاقاته بدول الجوار و بدول ذات مصالح كبرى في العراق؟
وعليه؛ فان الشعب العراقي في حاله هذا، هل نتوقع أن يهديه الساسة والطامحون الى السلطة والاستئثار بالمال، أن يهديه الوعي والثقافة واليقظة ليكون هو صاحب القوة والقرار من خلال إنهاء حالة "الانسداد السياسي"، أم إن القرار بيده هو، فهو القادر على تغيير المعادلة لصالحه، إنما يحتاج الأمر الى تضحية بشيء من الراحة والرفاهية وتحكيم القيم، فان المجتمع الذي يتمكن من قيادة المال سيكون بالتأكيد قادراً على قيادة الساسة جميعهم، وأن تكون له حكومة وبرلمان يمثلونه بشكل صحيح.
اضف تعليق