تضطر الإدارة العامة في كل منطقة أو جهة حكومية إلى وضع أولويات لخدماتها وبرامجها ومشروعاتها، على وفق فترات زمنية محددة، وعلى أساس مبدأ الأهم ثم المهم، وينتج عن ذلك عدم تمكن السلطات المحلية من تحقيق احتياجات السكان المحليين من جهة، وتأخرها في انجاز الخدمات ذات الأولوية من...

في بعض الدول، ومنها العراق، تقف الحكومات المحلية عاجزة عن توفير متطلبات السكان المحليين من خدمات ومبادرات وبرامج ومشروعات، تنهض بمناطقهم ومدنهم، وتعلل ذلك بقلة تخصيصاتها المالية، وضعف كفاءة مواردها البشرية، ومحدودية صلاحياتها.

فمن حيث قلة التخصيصات المالية، فواضح أن الكثافة السكانية هي المعيار الغالب في توزيع المواد العامة للدولة. وعليه؛ فالمنطقة الأقل سكانا تنال حصة أقل من أموال الموازنة العامة، والمنطقة الأكثر سكانا تنال الحصة الأكبر من تلك الأموال. والمدن ومراكزها -في العادة- تحصل على أكبر حصة من الأموال في مقابل حصة مالية أقل للأرياف والقرى، حيث تتركز مشروعات الدولة في المناطق الحضرية دون المناطق القروية. ومراكز المدن تحصل على حصة مالية أكبر من أطرافها، كونها تضم أكبر عدد من السكان.

وأما من حيث ضعف كفاءة مواردها البشرية، فالكثير من المسؤولين يشكون من قلة موظفي مؤسساتهم الكفؤين. فمع أن العراق يٌعد من بين الدول، بل أكثر الدول توظيفا، وأن هناك بطالة ظاهرة من قمة الهرم إلى أدناه، فان الإحصائية المعروفة هي أن 10% من الموظفين الحكوميين يؤدون 90% من الأعمال الأساسية، وأن 90% من الموظفين يؤدون 10% من الإعمال.

وعليه فان المدير المحظوظ هو الذي يحافظ على نسبة 10% من عدد موظفيها، حيث إن هذا العدد يتناقص سنويا بسب تأثير الـ 90% من الموظفين غير الكفؤين على 10% من الموظفين الكفؤين. والمشكلة الحقيقية تظهر حين يكون رئيس المؤسسة هو الآخر من الموظفين غير الكفؤين، فيقل إنتاج المؤسسة، وتتردى خدماتها إلى الحد الأنى من الطاقة الإنتاجية والإدارية لها.

وأما من حيث محدودية صلاحياتها. فمعروف أن الصلاحيات الأوسع هي تلك الصلاحيات التي يتمتع بها الشخص الذي يتبوأ قيادة المؤسسة الحكومية، فرئيس الوزراء صلاحياته أعم وأشمل من غيره، والوزير في وزارته صلاحياته أشمل من وكليه، والمحافظ صلاحياته أوسع من القائمقام، والقائمقام له صلاحيات أوسع من مدير الناحية، وهكذا بحسب هرم الوظيفة الإدارية والسياسية. ونادرا ما يجري تخويل الصلاحيات من المسؤول الأعلى إلى المسؤول الأدنى، كل ذلك يساهم في صعوبة أخذ القرار الملائم في الفترة الملائمة، ويؤثر مباشرة على مستوى الخدمات والمبادرات المجتمعية التي تنهض بواقع مناطق السكان المحليين.

وبسبب هذه المعوقات الثلاثة، تضطر الإدارة العامة في كل منطقة أو جهة حكومية إلى وضع أولويات لخدماتها وبرامجها ومشروعاتها، على وفق فترات زمنية محددة، وعلى أساس مبدأ الأهم ثم المهم، وينتج عن ذلك عدم تمكن السلطات المحلية من تحقيق احتياجات السكان المحليين من جهة، وتأخرها في انجاز الخدمات ذات الأولوية من جهة ثانية، وبالمحصلة النهائية عدم رضا السكان عنها من جهة ثالثة.

فهل يمكن التفكير بطرق أخرى لإنجاز متطلبات السكان المحليين بالاعتماد على السكان المحليين أنفسهم؟ وكيف يكون ذلك؟

الجواب ممكن جدا! وذلك عن طريق تنظيم مفهوم العمل التطوعية، وتوسيع مفهوم الشراكة المجتمعية ولكن تبرز مشكلتان، الأولى ماهية آليات تعزيز ثقافة العمل التطوعي وتسويقها، والثانية ماهية آليات تأطير الشراكة بين المؤسسة الحكومية والمؤسسة المجتمعية في مجال العمل التطوعي.

ففي مجال تعزيز ثقافة العمل التطوعي وتنظيمها وتسويقها، فواضح أن الإفراد والجماعات والمؤسسات المجتمعية والمؤسسات الدينية يقومون جميعا بنشاطات تطوعية متنوعة ومستمرة، حتى وإن لم يسموها بالعمل التطوعي. فالكثير من الإفراد يقدمون خدمات مجانية للآخرين، وتحت عناوين مختلفة، مثل صلة الرحم، والصدقة، ومساعدة الأيتام، والأسر الفقيرة، وإحياء المراسم الدينية، وتكثر الأعمال التطوعية في المناسبات الدينية، وفي الكوارث الطبيعية. وهذه كلها أعمال تطوعية غير محسوسة للحكومات المحلية من جهة، وغير محسوبة في مؤسساتها الخدمة والمالية من جهة ثانية. وما على السلطات المحلية إلا جميع البيانات التطوعية وترتيبها واحتسابها وأرشفتها وإخراجها كمجز إنساني واجتماعي وثقافي، يعزز مفهوم التكافل الاجتماعي لدى السكان المحليين.

وأما المشكلة الثانية، وهي تعزيز مفهوم الشراكة الحقيقية بين المؤسسة الحكومية والمؤسسة الاجتماعية من متطوعين ومنظمات ونقابات واتحادات ومنتديات ومؤسسات دينية وجماعات متدينة ومساجد وغيرها، فيمكن أن تلجا المؤسسة الحكومية إلى فكرة الاستثمار في السكان المحليين. فليس ثمة شك أن في داخل كل مجموعة سكانية ثلاث فئات أساسية:

- الفئة الأولى: فئة المفكرين والمنظرين، وهؤلاء بطبيعتهم يتكلمون كثيرا، ويٌنظرون كثيرا، ويحبون المشاركة في الندوات والمؤتمرات، ويحضرون الحفلات والمناسبات، ولديهم في كل ما يحدث رأي، قد يكون صائبا وقد يكون خطأ. وهؤلاء مثل أستاذة الجامعات والكليات والمدرسين والمعلمين ورجال الدين، وهؤلاء يمكن أن يقدموا أفكارا جيدة في مجال العمل التطوعي تخدم السكان المحليين وتوفير جزء من احتياجاهم.

- الفئة الثانية: فئة العاملين والمنفذين: في كل تجمع سكاني هناك أناس لديهم القابلية على العمل، ولديهم الاستعداد للعمل، فمثل فئة الشباب والطلبة والتلاميذ وأصحاب المهن الحر، وغيرهم يمكن الاستفادة من طاقاتهم في الإعمال التطوعية التي تخدم مجتمعاتهم.

- الفئة الثالثة فئة المتبرعين والممولين: في كل مجتمع هناك عدد لا باس به من الناس لديهم أموال يمكن أن تبرعوا بها لأي مبادرة أو مشروع يخدمهم أو يخدم مجتمعاتهم مثل التجار والموظفين والمتقاعدين وغيرهم، بل يمكن تحصيل التبرعات وجمعها حتى من الأهالي من ذوي الدخل المحدود، فمثلا كثيرا ما يجري في مدارسنا الحكومية الاستعانة بأهالي الطلبة للصرف على النشاطات الطلابية أو ترميم المدارس أو طباعة الكتب وغيرها.

- الفئة الرابعة: في الواقع هناك فئة كبيرة يمكن للمؤسسة الحكومة أن تركز عليها، وهي فئة الموظفين الحكومية، فهذه الفئة تمثل من جهة المؤسسة الحكومية عبئا كبيرا على المؤسسة نفسها لكثرتهم من جهة ولقلة إنتاجهم من جهة ثانية، بل يمكن أن يقفوا عثرة في تنمية وتطوير المؤسسة الحكومية ذاتها، ولكن هذه الفئة يمكن استثمار فراغها واستثمار كثرتها من خلال وضعها ضمن خطة العمل التطوعي بالاعتماد على حوافز معنوية أو مادية.

لكن السؤال الأهم كيف يمكن للمؤسسة الحكومية والسلطات المحلية أن تستثمر بهذه الفئات الثلاثة، وتحفزهم على المشاركة في الإعمال التطوعية فكرة وعملا وتمويلا؟

في الواقع هنا مربط الفرس، وهنا تظهر عبقرية وحكمة وإبداع المسؤولين المحليين، وهو كيف لهم أن يشدوا السكان المحليين للتبرع للمبادرات والخدمات والمشروعات المحلية؟ هنا نحتاج إلى الآتي:

1. وجود مبادرة تطوعية واضح: من المهم أن تفكر السلطات المحلية بالتخطيط لمبادرات مجتمعية متعددة تنفذها في مناطق يحتاجها السكان المحليون بالفعل.

2. وجود مساندة حقيقية للمؤسسة الحكومية: على الحكومة والسلطات المحلية أن تساعد أي مبادرة تطرحها هي أو يطرحها المجتمع المحلي، وأن تكون هي بموظفيها ومسؤوليها حاضرة في المبادرة، ويوفرون وسائل نجاحها. لأن مثل هذه المبادرات هي من جهة المؤسسة الحكومية مسؤوليات تقع عليها.

3. تحشيد المجتمع المحلي: من المهم أن تعمل السلطات المحلية على استقطاب فئات المجتمع الأربعة المذكورة، بطرق مختلفة لتتمكن من استثمار طاقاتهم الفكرية والجسدية والمالية.

4. التمتع بالمصداقية العليا: ما لم يثق السكان المحليون بأي مبادرة تنشا في مناطقهم فإنهم لن يساهموا بأي دعم فكري أو جسدي أو مالي.

5. تكريم أصحاب المبادرات: لابد من وضع برنامج متكامل لتكريم أصحاب المبادرات تكريما معنويا فمثل هذه المبادرات التكريمية من شانها أن تحفز أفراد المجتمع الآخرين على الاقتداء بالمبادرين والمتطوعين والداعمين.

...........................................
** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2022
هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...
http://ademrights.org
ademrights@gmail.com
https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق