استثمرت حكومة العدالة والتنمية الكثير من أرصدتها في مشروع "تسمين" داعش... فتحت لها الحدود على مصراعيها، قاومت الضغوط الإقليمية والدولية الرامية لتجفيف منابع الإرهاب وطرف أمداد، فقدت الكثير من صدقيتها ومكانته واحترامها في المجتمع الدولي في سعيها لتمكين التنظيم، قامرت بجلب الذئب على مقربة من حظيرة أغنامها، وكل ذلك بهدف تحقيق أهدافها في سوريا، والمتمثلة أساساً في:
(1) إسقاط النظام في دمشق... (2) قطع الطريق على قيام كيان كردي في شمال سوريا... (3) استعادة أحلامها بمد سيطرتها ونفوذها على شمال سوريا، وصولاً إلى حلب.
خيّبت "داعش" ظنون أنقرة وبددت أحلامها... الأسد ما زال في "عرينه" الدمشقي، والحفاظ على نظامه، به أو من دونه، بات مطلباَ إن لم نقل شرطاً للانتصار في الحرب على الإرهاب... الكيان الكردي في شمال سوريا، باق ويتمدد، وكلما اشتد أوار الحرب على الإرهاب، كلما ازدادت أهمية هذا الكيان وتعاظمت عناصر اقتداره، وكلما اكتسب مزيداً من الصدقية كحليف موثوق للغرب والولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب... أما شمال سوريا، فقد بدا مستعصياً على أحلام أنقرة التوسعية، بل وبدأ يتحول شيئاً فشيئاً إلى كابوس يقض مضاجع حكام البلاد الإسلاميين حين صار ملاذاً آمناً للجماعات الإرهابية من جهة، ومجالاً حيوياً للتوسع الكردي من جهة ثانية.
عند هذه النقطة بالذات، لم يعد بمقدور أنقرة الركون إلى سياسة "حروب الوكالة"، كان لا بد من التدخل المباشر وعلى أوسع نطاق ممكن، لانتزاع زمام المبادرة، سيما وأن منافساً إقليمياً لها، كان نجح للتو في تسجيل اختراق "تاريخي" على جبهة تفكيك أطواق العزلة، والخروج من قمقم الحصار إلى فضاءات الدور الإقليمي المتعاظم... الاتفاق النووي الإيراني، أشعر أنقرة بضرورة غذّ الخطى لتكريس دورها الإقليمي ووقف عملية التراجع والانكماش التي تعرض لها في العامين الفائتين.
كان لا بدّ لأنقرة أن تعمل على تمهيد الطريق للتحول الذي سيطرأ على موقفها ودورها، بدءاً بإعادة ترميم تحالفاتها مع واشنطن وبروكسيل، وإزاحة واحدة من أهم العقبات التي تحول دون ذلك... كان لا بد لأنقرة من استعادة وتفعيل "دورها الأطلسي"، بالانضمام للحرب الكونية على الإرهاب، وعنوان الإرهاب العالمي في هذه المرحلة يتمثل في "داعش" أساساً... كان لا بد من استدارة تركية في الموقف من التنظيم الأكثر قسوة ووحشية في التاريخ المعاصر، فجاءت الاستدارة، وأعلنت تركيا الحرب رسمياً على "داعش"... ولعها واحدة من أكثر المفارقات مدعاة للأسف في السياسة التركية: توظيف "داعش" مرتين، الأولى بتسميتها والثانية بالحرب عليها، لكأنها "دجاجة لا تبيض إلا في قن أنقرة".
والحقيقة أن هذه الاستدارة في الموقف التركي، لا يمكن تفسيرها بما طرأ على الإقليم من تطورات وتبدلات في مواقف ومواقع اللاعبين المحليين والإقليميين فحسب، ففي الداخل التركي، كانت حزب العدالة ورئيسه يتعرضان لأول "صفعة" قاسية منذ صعودهما "الأسطوري" للحكم في تركيا والانفراد فيه لما يقرب من ثلاثة عشر عاماً... "صفعة" أطاحت بأحلام أردوغان السلطانية وقضت على تفرد حزبه بحكم البلاد من دون شريك أو منازع... فكان لا بد من هجوم مضاد، يعيد للحزب موقع الصدارة الذي أفقدته إياه صناديق الاقتراع في آخر انتخابات برلمانية تشهدها البلاد.
لقد وجد أردوغان وحكومته، أن خيار التخلي عن "ورقة داعش" هو أفضل الخيارات السيئة المتبقية له، فتفتقت قريحته عن سلسلة من القرارات الدراماتيكية، بدءا بالسماح لواشنطن و"الأطلسي" بعد طول تردد و"ممانعة" باستخدام القواعد التركية (أنجرليك بخاصة) في الحرب على "داعش"، مروراً بتضييق الشرايين التي يتنفس منها التنظيم، مالاً وعتاداً ورجالاً، إذ ليس ثمة ما يشير أو يؤكد نية أنقرة إغلاق هذه الشرايين أو تقطيعها حتى الآن على الأقل... وأخيراً الاشتراك في الضربات الجوية ضد أهداف للتنظيم في سوريا.
لكن المتأمل في سير التطورات السياسية والوقائع الميدانية التي أعقبت "الاستدارة" التركية، يلحظ أن أنقرة انتقلت في علاقاتها مع "داعش" من "الاستثمار" إلى "التوظيف"... فمقابل كل طلعة لسلاح الجو التركي ضد أهداف لـ "داعش"، هناك عشرات الطلعات ضد أهداف لحزب العمال الكردستاني، حتى أن وحدات الحماية الشعبية الكردية السورية، حليفة واشنطن والأطلسي والتحالف الدولي، لم تسلم من ضربات الجيش التركي الجوية والمدفعية.
وباتت الحرب على "داعش"، إن جاز لنا أن نسميها كذلك، ستاراً كثيفاً من الدخان الأسود الذي تستظل بها أنقرة للهجوم على خصومها الأكراد، وتخفي بظلالها الكثيفة، حربها الأهم ضد مقاتلي حزب العمال في جبال قنديل وصولاً إلى السليمانية ودهوك، وبتواطؤ مكشوف من رئاسة الإقليم لحسابات ودوافع تتعلق بالتنافس والصراع على زعامة كردستان العراق أساساً.
لم تكتف أنقرة بذلك، بل سعت أيضاً لاستثمار الحرب على "داعش" للثأر من خصومها المحليين، وهي سياسة لطالما اعتمدها السيد أردوغان وحزبه في السنوات الأخيرة... فمثلما أخذ على كمال أوكلتشدار وحزب الشعب الجمهوري المعارض، أصوله العلوية ونفوذه في مناطق العلويين الأتراك، نراه يحمل اليوم على صلاح الدين ديمرطاش وحزب الشعوب الديمقراطية، لأصوله الكردية وشعبيته الكبيرة بين أكراد تركيا، ودائماً لضمان العودة لحكم البلاد منفرداً وتجسيد الأحلام السلطانية للزعيم التركي.
حرب تركيا وإن كانت موجهة رسمياً ضد "داعش" إلا أنها سياسياً وميدانياً، تنهض كحرب مفتوحة على الأكراد وكعملية تصفية حساب مع نتائج الانتخابات الأخيرة، وتوطئة لا بد منها، لتبكير الانتخابات أو تشكيل ائتلاف بشروط مواتية للحزب الحاكم ورئيسه الطامح لرئاسة مطلقة الصلاحيات... إنها حرب الأحلام السلطوية التي سترتد بأوخم العواقب على مستقبل البلاد والعباد، بل والمنطقة عموماً.
اضف تعليق