q
تكشف الازمات مفارقات خطيرة في اساليب التفكير ومناهج مقاربة الاحداث الجارية في العالم، لا تفضح الحروب المواقف واصطفافات المصالح والسعي لاغتنام الفرص الجديدة فحسب، بل انها تكشف العري الاخلاقي وترينا (نسبية الاخلاق) عند من يتحدثون كثيرا عن المبادئ والقيم الاخلاقية التي ينبغي ان تسود في العلاقات الدولية...

تكشف الازمات مفارقات خطيرة في اساليب التفكير ومناهج مقاربة الاحداث الجارية في العالم، لا تفضح الحروب المواقف واصطفافات المصالح والسعي لاغتنام الفرص الجديدة فحسب، بل انها تكشف العري الاخلاقي وترينا (نسبية الاخلاق) عند من يتحدثون كثيرا عن المبادئ والقيم الاخلاقية التي ينبغي ان تسود في العلاقات الدولية.

لا أحد يجادل بان النظام الدولي للعلاقات، تأسس ويتأسس دائما على قواعد المصلحة والقوة والامكانات والموقع الجغرافي، وبسبب تغير عامل القوة والتأثير وكثرة الحروب والنزاعات وهلاك الملايين من البشر في الصراعات الدامية، اضيفت مبادئ وقيم أُطرت بقوانين لحفظ السلم وتحقيق الحد الادنى من العدل وحقوق الشعوب والدول.

بعبارة مختصرة بلغ العالم اعلى نضجه السياسي والاخلاقي في تنظيم علاقات دوله وفق معاهدات وتشريعات ومؤسسات، كالتي اقيمت بعد الحرب العالمية الثانية، لوحظ فيها حق الشعوب في السيادة والاستقلال والمحافظة على خصوصياتها ومصالحها.

الصيغة الراهنة للنظام الدولي لم تحقق العدل والانصاف كما ينبغي، ولم تنصف الضعفاء والفقراء كثيرا، لكنها في حدها الادنى افضل صيغة وضعية فرضتها مصالح الاقوياء وقبل بها الاقل قوة املا في عالم اكثر عدلا.

في منتصف القرن الماضي، كان عالمنا الاسلامي بمعية باقي دول العالم الثالث او النامي، يبشر بقيم وقواعد جديدة تدعو الى العدالة والانصاف ولجم الحروب، ومنع العدوان وضمان الحق الادمي بالعيش بسلام وامان وازدهار، فيما كان قسم من المسلمين ذوي التوجه السياسي، وفق منظور جديد (الاسلام السياسي) يبشرون بـ (البديل الاسلامي)، يدعون الى الحق مقابل القوة، والسلم مقابل الحرب، والعدل بديلا للطغيان والظلم الناشيء من تنازع المصالح والطموحات التوسعية، بالاجمال (كنا) نتحدث عن نظرية في العلاقات الدولية اسميناها النظرية الاسلامية تارة، والانسانية تارة اخرى، باعتبار ان الاسلام يدعو الى السلام والامن والعدل واحترام كرامة الانسان وحقه في الاختيار، انه مع حقوق الفرد كما الجماعة، ومع حق الشعوب والدول في تحقيق ذواتها، سعيا الى عالم خال من الحروب والويلات والدمار، بضمن ذلك منع الانتشار النووي وصنع واستخدام الاسلحة ذات الدمار الشامل.

طبعا لم يشذ المسلمون عن غيرهم في التصارع والتنازع بدوافع البشر السياسية والمصلحية، فكان العالم الاسلامي مسرحا لحروب كان يستعين فيها المسلم ب(الكافر) ضد اخيه المسلم، مستعينا بعدة تبريرية، فكان البعض يعتدي على البعض الاخر بغير حق، وكلها تحت مسمى المنازعات الحدودية او الدوافع الامنية او الحروب الاستباقية، لمنع التهديد الواقعي او المتخيل، في هذه الازمات العنيفة كانت المبادئ والمشاعر والميول والاتجاهات والقيم الدينية والانسانية والخطابات الايديولوجية تُختبر اختبارا لالبس فيه، كان البعض يندهش من مواقف تعبر عن (اعوجاج) الفهم والسليقة وتشوهات الفكر وتحيزاته.

كانت الدهشة اشد عندما وقف معظم الاسلاميين الى جانب صدام مرة اخرى في غزوه للكويت عام 1990، ووجدوا اعذارا سخيفة لهذا الموقف تحت مسمى وحدة الامة والوقوف خلف زعيم يريد توحيد الاوصال المقطعة لبناء (دولة الامة) والوقوف بوجه الغرب الصليبي وتحرير فلسطين !!!!.

فضحت ازمة الكويت وحرب تحريرها عام 1991مبادئ وتنظيرات الكثير من (الاسلاميين) وبان الخواء الاخلاقي والعطب الكبير في فقه الاخلاق والسياسة الى درجة السذاجة، وانقسم المسلمون يومها بين مؤسسات افتاء تقليدية، تدعم حرب تحرير الكويت وشرعية الاستعانة (بالكفار) ضد باغ مسلم، فيما انحاز اغلب الحركيين الاسلاميين الى جانب نظام صدام حتى وهو يسحق العراقيين تحت جنازير الدبابات بعد انتفاضة اذار 1991 مرة بداع طائفي لعين، واخرى بدواعي الجهل والسطحية والنمطية الفكرية الساذجة، الى الدرجة التي جعلت رجلا مثل الشيخ علي بلحاج نائب الجبهة الاسلامية للانقاذ الجزائرية يومها، يصرح بان سبب هزيمة وانسحاب جيش صدام من الكويت هو عدم اطاعة الضباط الشيعة للاوامر !!!!!!!!!!؟.

ولم يتوقف هذا التلبيس على العقول والفهم المغلوط لمجريات الامور، حتى وجدنا مشايخ دين وسياسيين ومفكرين ومثقفين وجمهور كبير ينحاز الى القتل والارهاب في العراق بعد 2003 بدعوى المقاومة للاحتلال الامريكي ومناصرة الاسلاموية الجديدة، التي مثلتها فصائل (جهادية)؟ راحت تقتل العراقيين وتتغافل عن الامريكان.

في الازمة الاوكرانية الحالية، شهدنا انحياز افراد وجماعات الى جانب منطق فلاديمير بوتن، مرة لانه يريد تعديل النظام الدولي ومنع انفراد امريكا التي يبغضونها بزعامة هذا النظام منذ انتهاء الحرب الباردة، ومرة بزعم ان اوكرانيا جزء تاريخي من روسيا، تماما مثلما رفع صدام شعار عودة الفرع الى الاصل في دعوى احتلال الكويت، اخرون يلومون رئيس اوكرانيا زيلينسكي لانه انحاز الى امريكا والغرب وانه غير مؤهل سياسيا، فلم يكن سوى ممثل كوميدي، بينما راح اخرون يشمتون به كونه يهودي الاصل !!؟ وذهب العباقرة الى امتداح الانتفاضة البوتينية ضد الانفراد الامريكي واعتبرو غزوه لاوكرانيا تصحيحا لمسيرة التاريخ!!.

غابت عن اذهان المناصرين للغزو انهم ينحازون لمنطق الغطرسة والقوة والاعتداء على سيادة الدول وحق الشعوب في تقرير مصائرها وتقدير مصالحها والعيش بسلام وامان وحرية واختيار، لايًفهم هذا التأييد للغزو الا براغماتية لا تلتقي مع مبادئ التضامن الانساني، هي ازدواج معايير وانتقائية كانت مذمومة يوما على السن من يمتهنونها اليوم، حدد القران الكريم مبدأ العدل وجعله قيمة عليا، فقال ((ولايجرمنكم شنآن قوم على ان لاتعدلوا، اعدلوا هو اقرب للتقوى))، ان الشنآن لامريكا وسياساتها.

والغرب عموما وللمحور الامريكي وحلفائه لا يسوغ الانحياز للاخر الذي يزدري انسانية الانسان في اوكرانيا ويدمرها بدواعي واهية، ولا يمكن القبول بدعاوى حماية انفصاليين هناك ورفضها في اماكن اخرى، ان منطق موسكو الموارب في رفع شعار دعم الاقلية الروسية والتدخل العسكري لحماية الامن القومي وابقاء روسيا قوية مزدهرة دونما تهديد اوكراني مزعوم، سيكون سلاحا يتكرر ضد دولنا الهشة وفسيفسائنا القومي والطائفي، نحن الذين تهتز الارض تحت اقدامنا في كل ازمة تشتعل في عالمنا.

احرى ان ننحاز الى قيمنا واخلاقنا، وان نتبين الحق في مواقفنا استهداء بمقولة صوت العدالة الانسانية عندما رفض مبدأ (طلب النصر بالجور)، وقبله مقت الله تعالى للحرب عندما وصم اليهود بانهم يوقدون اوارها ((كلما اوقدوا نارا للحرب اطفأها الله))، ان انحدار الخطابات الايديولوجيا الى هذا الحد المنافي للقيم الانسانية يكشف سبب عجزنا الذاتي عن حل مشكلاتنا الداخلية، الازمة عميقة.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق