لقد كشفت سنوات ما بعد التغيير، ان تفكيك المركزية الشديدة امر في غاية الصعوبة لا بسبب التقنين ومحفظة القوانين والتشريعات الكثيرة، بل بسبب عقلية سياسية ترى ان احتفاظ المركز بالمال والصلاحيات، هو ما يحفظ تماسك العراق ويمنع تفتته، مثلما كشفت التجربة ايضا ان كارهي المركزية لا يحسنون الادارة والتصرف...
قليلون من العرب وكثير من الكرد ساءهم الحكم الذي اصدرته المحكمة الاتحادية، ببطلان قانون النفط والغاز الذي اصدره اقليم كردستان العراق، اغلبية عربية ساحقة واقلية كردية تحمست للقرار، واعتبرته خطوة جبارة باتجاه تصحيح العلاقة بين المركز والاقليم، بعدما شابها (تمرد) كثير على سياسات المركز، جعل الاقليم دولة ببطن الدولة العراقية، تستفيد منها ساعة الحاجة، وتشاكسها في ساعات الرفاه.
انطلق جدال متجدد فور صدور قرار المحكمة، أعاد الحديث عن موضوع العلاقة بين الاقليم والحكومة المركزية، ومساحة الصلاحيات الدستورية التي تتمتع بها الاقاليم، واشكاليات التعارض وسوء التفسير والفهم للبنود العامة للدستور، وهو الامر الذي اكتنف علاقات اربيل وبغداد منذ العام الاول لسريان دستور 2005، بما اثقل الحياة السياسية العراقية وصيّرها مسرحا للضغائن والتقلبات، والحسابات المتعارضة والطموحات غير المعقولة.
لأعود بكم قليلا الى التاريخ ، واذكركم بأن شعار الثورة الكردية منذ عام 1961 هو الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان، في عام 1992 وبعد انتفاضة شعبان 1991، واثناء انعقاد مؤتمر صلاح الدين للمعارضة العراقية، انتزع الكرد اقرارا من اطياف المعارضة بان العراق الجديد الذي سيبنى على انقاض نظام البعث، سيكون ديمقراطيا فيدراليا، بُعيد سقوط النظام، افاق العراقيون على تجربة جديدة مقننة بمواد دستورية عامة، شابها الغموض أو (التغميض)، ذلك بأن الاقليم اقتنص فرصة تاريخية، ليعبد الطريق نحو فيدرالية تتحول الى كونفدرالية خلال بضعة سنين، ثم تنتظر سنين اخرى لينضج حلم الدولة.
لم يكن هذا الامر سرا ولا رجما بالغيب ولا قراءة للنوايا، الاقليم باق ضمن العراق الفيدرالي لضرورات سياسية وامنية واقتصادية، وهي كلها متعلقة بغطاء دولي وضمانات خارجية، متى ما شعر الكرد بأن اللحظة واتتهم لتحقيق الحلم فانهم لن يتأخروا في الاعلان عنها، استفتاء عام 2017 كان تمرينا اختباريا.
حجر الزاوية في تحقيق الحلم القومي هو استثمار النفط والغاز بعقود يفصلها الاقليم تفصيلا، عبر بيوت خبرة قانونية دولية، ويسلك فيها مسلكا يرغم المركز على التسليم لتفسيراته القانونية والسياسية.
اين المشكلة في ذلك؟ المشكلة في الاقتصاد السياسي، فغداة توقيع الاقليم مع شركة اكسون موبيل النفطية الامريكية عبر الزعيم البارزاني بان وجود الشركة يعادل وجود فيلق عسكري للحماية، عند ذاك اكتشف المركز ان مياها كثيرة جرت تحت اقدام العلاقة بين اربيل وبغداد وان الذين صاغوا عبارات الدستور من (الاباءالمؤسسين) كتبوا بنوايا تحالفات المعارضين لا بحسابات بناة الدول الحذرين من الافخاخ البلاغية واللغوية، وان الامر الواقع صار يتراكم لصالح احتفاظ الاقليم بالعائدات المالية وببيع النفط والغاز لمن يشاء ولمن يشتري، اما اعتراضات وزراء النفط الاتحاديين او تذمر وزارة المالية فانه لن يكون له مغزى، طالما ان الاقليم يحصل على نسبته من الموازنة مطروحا منها ما يدخل خزانة اربيل من اقسام النفط المصدر بعد حسم حصة المستثمرين الاجانب والمحليين!
قرار المحكمة الاتحادية المتأخر جاء ليجرد الاقليم من اكبر دعامات الفيدرالية التي استحصلها طوال 40 عاما من النضال، ولذلك رفض الاقليم حكم المحكمة وأشعر بغداد بالحرج الشديد، ماذا ستفعل الحكومة المركزية؟ هل ستتعامل وفق السياقات الدستورية والقانونية وبأي ادوات؟ ام انها ستلجأ الى الوسطاء الدوليين؟ ام تستعين بأولي الطول والقوة اللذين يستطيعون التأثير على ساكني مصيف صلاح الدين؟
العرب المنزعجون من قرار المحكمة الاتحادية رأوه متأثرا بالواقع السياسي ويقضي على مكاسب اللامركزية التي تحققت بصعوبة ويعيد هيمنة بغداد على الاموال والادارات والخطط، وهي هيمنة مقيتة، فوتت فرصا كبيرة واهدرت اموالا عزيزة، وقوضت فلسفة الادارة الفيدرالية للحكم والدولة، المهللون للقرار قالوا انه جاء ليمنع تجاوزات كبيرة على صلاحيات المركز الدستورية ويصحح العلاقة بما يمنع الفهم الاحادي للصلاحيات، فدستور البلاد يوزع الصلاحيات بين حصرية للمركز وخاصة للاقاليم ومشتركة بين الاقاليم والمركز، وفي كل السنين المنصرمة لم يشهد العراق تقيدا في الادارة واستخدام الصلاحيات، لا من الاقليم الطموح جدا، ولا من المركز الضعيف الذي يريد تقوية ضعفه باحتكار المال والصلاحيات، ولو على حساب ضعف الانجاز وهيمنة مافيات المال، والتربح والزبائنية المفضوحة والفساد المبطن.
المحكمة الاتحادية وضعت العراق على مفترق طريق، قد يقوده الى الهاوية اذا ما أصر الاقليم على فهمه وتفسيره وعقوده الخاصة، وعدم تسليمه للاموال الى الخزانة العامة، في قبال ضعف حيلة المركز وتشتت قرار السلطة فيه، وتيه السياسات بين الحسابات الشخصية وتوافقات حزبية تأتي في الدقائق الاخيرة.
لقد كشفت سنوات ما بعد التغيير، ان تفكيك المركزية الشديدة امر في غاية الصعوبة لا بسبب التقنين ومحفظة القوانين والتشريعات الكثيرة، بل بسبب عقلية سياسية ترى ان احتفاظ المركز بالمال والصلاحيات، هو ما يحفظ تماسك العراق ويمنع تفتته، مثلما كشفت التجربة ايضا ان كارهي المركزية لا يحسنون الادارة والتصرف تحت سقف الوحدة الوطنية والسيادة العليا للدولة، انها معركة مفاهيم وقوانين وصلاحيات ونوايا وطموحات لن تتوقف حتى يعاد تعريف العراق مجددا وفق رؤية غالبية السكان لا وفق احلام النخب المتصارعة.
جاءت لحظة تصحيح العلاقة بين بغداد واربيل في ذات اللحظة التي ينقسم فيها سياسيو بغداد وسياسيو الاقليم بين تيارات عطلت تشكيل الحكومة ورسخت امام العام تجربة فشل الديمقراطية في البلدان ذات التاريخ الاستبدادي الطويل.
اضف تعليق