التساؤلات المتواصلة دون جواب عن سر الاندفاع غير الطبيعي نحو مستنقع هذه الحروب؟ وهل يمكن تفاديه؟ وما هي الخطوات اللازمة للخلاص؟ ثم؛ على من تقع المسؤولية؟ هل هي مسؤولية الدولة لوحدها، أم أن للمؤسسات الجماهيرية والشريحة المثقفة دورٌ في إبعاد الناس عن نيران الحروب العبثية؟...
هناك حروب دفاعية وأخرى استباقية، ولكل منها ظروفها الموضوعية، ومتطلباتها، وايضاً؛ الخطط اللازمة بغية تحقيق الانتصار، وفي كل الحالتين يكون المدافع عن أرضه والمبادر لمباغتة عدوه، في موقف ايجابي يُثنى عليه وعلى خوضه الحرب المشروعة في مواجهة أعداء يتربصون به سواء كسب المعركة أم خسرها، فهو في مسعى نبيل دفاعاً عن الوطن.
بيد أن ثمة نوعاً ثالثاً من الحروب تُفرض على الشعوب لأسباب مختلفة دون أن تكون ذات صلة بطموحاتهم، وقضاياهم الراهنة، فهي ليست حرب استقلال، ولا حرب دفاع ضد الغزاة، وإنما هي حرب بالوكالة عن قوى أخرى تقف متفرجة بعيداً عن نيران المعركة، وهذا ما نشهده طيلة السنوات الماضية في بلادنا الاسلامية، إنما التساؤلات المتواصلة دون جواب عن سر الاندفاع غير الطبيعي نحو مستنقع هذه الحروب؟ وهل يمكن تفاديه؟ وما هي الخطوات اللازمة للخلاص؟ ثم؛ على من تقع المسؤولية؟ هل هي مسؤولية الدولة لوحدها، أم أن للمؤسسات الجماهيرية والشريحة المثقفة دورٌ في إبعاد الناس عن نيران الحروب العبثية؟
المعالجة ثقافياً.. العراق مثالاً
كُتب الكثير عن الحرب على الارهاب في العالم، وانزلاقها الى العراق، ونحن نضيف بأن العراق ليست له أية علاقة حقيقية بهذه الحرب، فهو ليس افغانستان او باكستان، او مصر، ولدت فيه جماعات تكفيرية تفعل كل شيء التزاماً بأيديولوجيتها المتطرفة، بينما عاش طيلة ثلاثين عاماً في ظل نظام حكم مارس أقسى وأبشع أنواع ارهاب الدولة المنظم، ومن ثمّ خرج الى النور عام 2003 بحثاً عن السلام والاستقرار بعيداً عن التفكير بالانتقام، إنما الذي مهّد الأرضية لهذه الحرب؛ مصالح اقليمية وأخرى دولية وجدت الخطورة الشديدة في ظهور عراق آمن، يسود السلم الأهلي ربوعه، ثم تكون له الفرصة للتطلّع نحو النهوض والتقدم، والذي عقّد الوضع أكثر وجعل الحرب على الارهاب في العراق قضية عراقية، تبنّي بعض الجهات والتيارات هذه الحرب وعدّها قضيتهم المركزية التي تستحق التضحية من أجلها!
ولا أجدني ملزماً لتكرار الحديث عن مسؤولية الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية من قوات مسلحة، وأجهزة أمن وقائي، واستخبارات عسكرية، كونه أمرٌ مفروغ منه، وهي مهمة أي نظام سياسي يتعرض لهذا النوع من التهديد الداخلي، إنما الحلقة المفقودة في خط المواجهة؛ الجانب الثقافي الذي ربما يبدو للوهلة الأولى غير ذي صلة بالموضوع، ولا بأصل الحدث، بيد إن التصدّي لهذا النوع من التهديد يتطلب صياغة مفهوم بالضدّ منه لأن العمليات الارهابية التي شهدناها طيلة السنوات الماضية نفذت بأيدي عراقية، الى جانب الأيادي المستوردة من الخارج، مما يعني أن مفهوم الأمن والسلم ملبوس على الناس فلا يرونه بصورته الناصعة والحقيقية، ثم "إن السلام والحفاظ عليه لا يتحقق بمجرد الحديث الاعلامي أو من خلال منظمات السلام، لأن السلام ليس أمراً سطحياً، كما أن الحرب ليست كذلك، بل اللازم اقتلاع جذور الحرب حتى يسود السلام، وجذور الحرب هي حرمان الانسان مما توجب له الثورة ضد الطبقة التي حرمته"، (عالم الغد- ص511، المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي).
وفي كتابه القيّم يشير سماحة الامام الراحل الى ثلاث اتجاهات للوعي من شأنها استبدال ثقافة العنف والحرب بثقافة السلم والاستقرار هي؛ الوعي السياسي –الديمقراطي، والوعي الاقتصادي المتمثل بالمطالبة القوية بالتوزيع العادل للثروة وفرص العمل، وايضاً الوعي الاجتماعي القاضي بتحكيم المساواة بين افراد المجتمع في الحصول على العلم والحكم والمال.
إن سقوط العراق، بشعبه وقدراته في حرب استنزاف مريرة ومثيرة للشجون، يعود في سبب من اسبابه المحورية الى غياب ثقافة السلم الأهلي من الاذهان، بل ثم إيمان لدى البعض بأن التزام مبدأ العنف والهيمنة هو السبيل لاستعادة الحقوق، واستعادة الحياة الطبيعية بالنسبة لهم، أما مفاهيم مثل؛ السلم، والاستقرار، والتسامح، والتقارب الاجتماعي، من دواعي الضعف والضِعة، بل والخسران، وعليه فان القتل غدراً، او تنفيذ عمليات نسف وخطف ومختلف اشكال إراقة الدماء هي اللغة المفهومة سياسياً واجتماعياً من شأنها ان تعود بالاميتازات والمنافع لاصحابها.
إن تفادي العمليات الارهابية التي تحصد بين فترة واخرى خيرة شباب العراق من افراد القوات المسلحة، لا يتم من خلال عمليات عسكرية وحسب، وإنما بعمليات وخطوات تكرس حالة بالنقيض من التحفّز نحو تلك العمليات الارهابية، ولا أدلّ على هذا من الشحن الطائفي والتعبئة النفسية من خلال مقاطع الفيديو والاخبار المثيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وما تبثه القنوات الفضائية من حوارات وبرامج مختلفة تجعل من التنوع الطائفي والقومي معملاً لانتاج الالغام في حياة المجتمع العراقي، وتجعل من النفوس قفصاً للكآبة والخيبة واليأس المطبق.
إمكانية إخماد الحرب بالوكالة.. اليمن مثالاً
جماعة أنصار الله التي تسيطر على الجزء الشمالي من اليمن وعاصمتها صنعاء، يقولون أنهم يخوضون حرباً دفاعية ضد قوات ما يسمى بالتحالف العربي، وهي الحقيقية التي لا يماري فيها المنصفون في العالم مع وجود انسجام واضح بين الجماهير اليمنية وجماعة أنصار الله التي أوجدت نظاماً للحكم بديلاً عن النظام السابق الذي وسمته بالمتخاذل والضعيف أمام الجماعات المتشددة والمتطرفة، وايضاً؛ امام التطلعات السعودية في اليمن، لذا فهي تحولت من حجر عثرة أمام المصالح السعودية، الى واقع سياسي له جذوره في الارض بات يشكل تهديداً ماحقاً للسعودية في عقر دارها.
وما تعلمه هذه الجماعة الحاكمة في صنعاء، وزعيمها بعد الملك الحوثي، ايضاً؛ أن هذه الحرب ليست حرب سعودية بامتياز بقدر ما هي حجرة ضمن أحجار على رقعة الشطرنج في مسرح الاحداث بالشرق الأوسط، لذا فهي دائمة الشجب والاستنكار للمواقف الاميركية الداعمة للسعودية، فما الذي يجب فعله في ظل حصار قاسٍ على اليمن من قبل السعودية، وحرمان الشعب اليمني من الطيران من صنعاء، وتطويق لمعظم الطرق البرية الموصلة، مع تشديد حركة الملاحة المتجهة الى ميناء الحديدة؛ المنفذ الوحيد الى العالم؟
القصف الجوي الاخير لطائرات التحالف السعودي الذي استهدف سجناً في مدينة صعدة، ومقتل واصابة حوالي مائتي سجين، على خلفية استهداف مطار ابوظبي بصواريخ من طائرات مسيّرة تابعة لقوات انصار الله، والتسبب في مقتل عدد من الاشخاص واحتراق صهاريج للوقود، أثار من جديد التساؤل عن سبب هذا الانزلاق السريع نحو التصعيد العسكري المدمر، وبشكل مختصر نشير الى خلفية التصعيد في تقديم الامارات دعماً لوجستياً الى "قوات العمالقة" في مناطق تابعة لمأرب المتحصنة أمام زحف القوات اليمنية، الامر الذي أغاض صنعاء بشدّة عادةً هذه المبادرة محاولة لاستفزازها، فكان قرار قصف مطار أبوظبي الذي كان له صدى إعلامي وسياسي واسع أحرج حكام الامارات بشدّة، لاسيما وأنها المرة الاولى التي يتعرض لها مطار عاصمة دولة الامارات لهجوم واختراق بهذا الشكل، ولم تمض سوى ثلاثة أيام على القصف حتى جاء الرد العنيف والقاسي بقصف السجن والتسبب بمجزرة رهيبة راح ضحيتها عشرات الابرياء الموقوفين لاسباب ربما تكون بسيطة.
الغريب في الأمر أن حكومة صنعاء على دراية تامة بالعلاقة غير الشفافة بين السعودية وحليفتها الامارات في طريقة التعامل مع الملف اليمني بشكل عام، وكيف أن الاخيرة حاولت منذ فترة تحييد موقفها من هذه الحرب وعدم الانزلاق أكثر في مستنقع الدم الذي تخوضه السعودية، ورشحت أنباء عن اتصالات بين مسؤولين من الامارات ومسؤولين من صنعاء وهو ما لا يخفى على الرياض بطبيعة الحال، ولا تسمح له بالتطور والنمو.
للاجابة على السؤال الآنف الذكر يكفي النظر الى المعطيات السياسية على الارض وامكانية الاستفادة من فرص السلام، كما هو من حق الشعب اليمني الدفاع عن نفسه و أرضه، من خلال تعميق الخلاف بين الامارات والسعودية بسلاح السلام وليس بالصواريخ التي تزيد اللُحمة و توحد المواقف والمصير كما تفعله التهديدات الخارجية في كل مكان.
المرجع الديني الراحل في نفس الكتاب "عالم الغد" يدعو الى خمس خطوات من شأنها المساعدة على "فضح الحروب بالوكالة، والحيلولة دون الوقوع فيها"، نذكر منها:
1- تقوية العلاقات بين الدول المتجاورة حت لا تتمكن الدول الكبرى من إيقاع الحرب بينها.
2- فضح التحالفات العسكرية للدول الكبيرة في أراضي الدول الصغيرة.
3- تحجيم العلاقات بين الدول الصغيرة والدول الكبيرة، حتى لا يتمكن الكبار من إيكال الصغار الى الحروب كما هي العادة.
المشكلة في البلاد المأزومة والمبتلاة بالحروب المفروضة أن الهدف يغيب عنها في بعض الاحيان بينما يكون الاهتمام والتركيز على الوسائل المؤمّل عليها الوصول الى هذا الهدف، وهذه الوسائل هي التي تدفع بشكل لا إرادي نحو المزيد من الغوص في مستنقع الحرب بما يصعب عليها الخروج منها عندما تكون الوسائل التصعيدية، وتغليب العنف على العقل، فتكون الوسيلة هي الهدف.
اضف تعليق