هذه الخطبة كبيرة وعميقة ركّزت على الانحراف عن كتاب الله وعن منهج رسول الله وهذا الأمر كان يعتصر قلب الزهراء ألما لأنه سوف يؤدي بالناس إلى العيش البائس والضيق، لانهم استجابوا لهتاف الشيطان الغويّ الذي يقودهم للانحراف والوقوع في مستنقعات الشقاء، وإطفاء نور الله الجليّ الذي يكشف لهم الحقيقة الناصعة...
(فَجَعَلَ اللهُ... وَالعَدْلَ تَنْسِيقاً لِلقُلُوبِ، وَطاعَتَنَا نِظاماً لِلمِلَّةِ، وَإمامَتنَا أَماناً لِلفُرْقَةِ)
حلّت علينا في الأيام الماضية ذكرى استشهاد السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، نستذكر جانبا من مآثرها في خطبها التي تطرقت فيها للإمامة والعدل والقيادة.
الخطبة الفدكية للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت حركة لإثبات ولاية أمير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، واستمرارا لـ قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)، وفي هذه الخطبة أرادت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أن تثبت الطريق المستقيم في منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهناك بعض الأهداف التي يمكن ان نستنتجها من منهجية خطبة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام).
أهداف الخطبة الفدكية
الهدف الأول: الهدف الأساسي كان اثبات منهج الولاية والامامة الذي اقره الله سبحانه وتعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) في يوم الغدير، لذلك يمكن ان نقول انها خطبة الغدير الثانية.
الهدف الثاني: كانت الخطبة على مستوى كبير من العمق والدقة لكثرة المواضيع التي ذكرتها الزهراء (عليها السلام)، لإثبات رسالة الإسلام، من إفراز للمناهج ونجاعة منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في مقابل المناهج الاخرى، فهي لم تخرج في حالة انفعالية، وإنما طالبت بالتمسك برسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، لذلك قالت هذه الكلمة: (أَيـّهَا النَّاسُ اعْلَمُوا أنـّي فاطِمَةُ وَأَبِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ، أَقُولُ عَوْداً وَبَدْواً، وَلاَ أَقُولُ مَا أَقُولُ غَلَطاً، وَلاَ أَفْعَلُ مَا أَفْعَلُ شَطَطاً...) لذلك كانت كلماتها موضوعية في سياقاتها وصائبة في معانيها وحقيقة في موازينها، عقلانية لم تدفعها العاطفة بل كانت راجحة الاستدلال وفصاحة البيان وبلاغة الكلام، لذلك جاءت خطبتها قمة في الاثبات وعمق في التصحيح وعظمة في التوضيح، استطاعت أن تلخص فيها جوهر الرسالة الإسلامية، وتبيين ذلك الانحراف والانقلاب الذي حصل ضد منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكشف حقيقية هذا الانقلاب في عمقه تاريخيا وبقاء منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام).
خلاصة الاسلام
المرجع الديني السيد صادق الشيرازي يقول في كلمة حول الخطبة الفدكية: (بعد استشهاد النبي (صلى الله عليه وآله) ألقت السيدة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها خطبة تضمّنت خلاصة أصول الإسلام وأخلاقه وفلسفة أحكامه، أوصي الجميع وبالأخصّ الشباب والشابات، أن يحفظوا هذه الخطبة لأنها تنفعهم في الدنيا والآخرة، وأن يعملوا على جعل هذه الخطبة من مناهج الدراسة في المدارس ومراكز التعليم)، لأن هذه الخطبة منهج استراتيجي ومتكامل للحياة الصحيحة والسليمة.
فإذا قرأت الخطبة من أولها إلى نهايتها، سوف تعرف ما هو الإسلام، والى ماذا يهدف رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولذلك تنبع أهمية دراسة هذه الخطبة وجعلها مادة دراسية.
النجاة في منهج أهل البيت
الهدف الثالث: تثبت هذه الخطبة أن النجاة في اتباع منهج أهل البيت (عليهم السلام) والانحراف عنهم سيؤدي إلى كوارث كبيرة، وهذا ما حدث فعلا، فالإمة الإسلامية لم تعش الاستقرار بعد استشهاد الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأصبحت سيرتها عبارة عن اضطرابات وحروب وأزمات واستبداد وظلم وفشل وفساد الحكام الذين عاثوا في الارض وجعلوا الإسلام حكما وراثيا وملكا عضوضا.
اهمال سنن النبي
الهدف الرابع: أرادت هذه الخطبة اثبات أن هناك قواعد ثابتة وسنن كونية لبناء الحياة الصالحة، فمثلا لو أردت أن تبني بيتا فهل من المعقول أن تبنيه بشكل عشوائي وبلا أي قواعد صحيحة للبناء، فهناك قواعد هندسية وخبراء مختصون، كذلك هنالك قواعد وسنن كونية من أجل بناء الحياة الصالحة.
تقول السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في جانب من خطبتها: (وَتَسْتَجِيبُونَ لهِتافِ الشَّيْطانِ الغَوِيِّ، وَإطْفاءِ أَنوارِ الدِّينِ الجَلِيِّ، وَإهمْالِ سُنَنِ النَّبيِّ الصَّفِيِّ)، فقد جاء النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) بتعاليم واضحة للناس كي ينظموا حياتهم وفقها، لكن الطمع والجشع وحب الدنيا والشغف بالسلطة يجعلهم ينحرفون، للسيطرة على السلطة والمال لكي يحكموا، وهم في الغالب يملأهم الحقد والحسد والحرص والعنف والغدر فيتلاعبون بالمقدرات وتدمير البلاد والعباد.
فالمناهج التي يسيرون عليها ليست صحيحة، وعندما يكون المنهج غير صحيح سوف تُدمَّر البلاد والعباد، حيث يخالفون السنن الكونية التي يجب الالتزام بها، فهل من المعقول أنك تخالف سنّة الجاذبية مثلا، وماذا سيحصل إذا فعلت ذلك؟، النتيجة هي الموت.
كذلك هناك سنن تشريعية واجتماعية واخلاقية ونفسية ثابتة لابد للإنسان أن يلتزم بها، حتى يستطيع أن يكون من الناجين، لكن المنحرفين تركوا سنن النبي (صلى الله عليه وآله) ووضعوا مناهجهم الخاصة لكي تشرعن السلطة لهم بحسب مزاجهم وأهوائهم الشيطانية، لذلك فإن اساليبهم أدت إلى تدمير البلاد والعباد.
لذلك نحن نحتاج إلى قراءة منهج أهل البيت (عليهم السلام) وأحاديثهم، حيث نجد فيها السنن الصحيحة التي تبني حياتنا بشكل صحيح، لكن يجب أن ننسى أهواءنا من خلال ممارسة الورع والتقوى، لأنه أغلب الأشياء التي تؤدي إلى الانحراف هي المعاصي والذنوب، لأنها تتلاءم مع المزاج الشخصي واللذة والمتعة وحب المال والدنيا والتملك، التي تؤدي بالإنسان الى الوقوع في فلك الشياطين ومن هنا تستمر المعاناة وتزداد المشاكل المعقدة.
إن خطبة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) والنصائح التي قدمتها لم تنحصر بأولئك القوم فقط، وإنما موجّهة للجميع، فهي تشمل الماضي والحاضر والمستقبل، ويجب عدم إهمال سنن النبي (صلى الله عليه وآله)، لأن هذا الإهمال هو الذي يجعلنا نقع في المآسي التي نعيشها اليوم.
علينا أن نفكر ببناء حاضر ومستقبل صحيح، فلماذا نفكر ببناء بيت بأسس غير سليمة؟، لماذا حياتنا كلها مليئة بالانحرافات؟، السبب لأننا تجاهلنا هذه الكلمات العظيمة.
ألم كبير من الانحراف
الهدف الخامس: عبرت الخطبة عن ذلك الألم الكبير الذي اعتصر قلب الزهراء عليها السلام للانحراف الكبير عن كتاب الله وسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله). وألم كبير من أولئك القوم الذين أنقذهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تلك المعيشة البائسة، لكنهم هكذا يفعلون بفاطمة الزهراء (عليه السلام).
هذه الخطبة كبيرة وعميقة ولا يمكن أن نعطيها حقها في مقالنا هذا لضيق المجال، ولكننا نلاحظ أن هذه الخطبة ركّزت على الانحراف عن كتاب الله تعالى وعن منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذا الأمر كان يعتصر قلب الزهراء ألما لأنه سوف يؤدي بالناس إلى العيش البائس والضيق، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ) طه 124، لانهم استجابوا لهتاف الشيطان الغويّ الذي يقودهم للانحراف والوقوع في مستنقعات الشقاء، وإطفاء نور الله الجليّ الذي يكشف لهم الحقيقة الناصعة والطريق المستقيم ويجنبهم السقوط في الشك والارتياب وعدم اليقين وغموض المستقبل، لكنهم اختاروا الضلال والظلام عندما اهملوا سنن النبي الصفيّ الواضح والنور المجلي للظلام التعيس، فعندما يتركون هذا الوضوح ويدخلون في عوالم الظلام الملوَّث بالشهوات والاطماع والاهواء تنغلق كل الآفاق الرحبة وتنفتح صناديق الشرور، وتهب العواصف المظلمة فتسلب نصاعة الحياة ورؤية الخير.
فحين يسير الإنسان في أجواء نقية صافية، فإنه يسير في طريق صحيح، أما إذا دخل في عاصفة ترابية وجو مغبر، فإنه يشعر بالخوف والهلع ومن الصعب السير في طريق كهذا، لذلك فإن هؤلاء الذين يسيرون في طريق الشيطان الغويّ أهملوا سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) النقية، وتركوا السنن الصافية والواضحة التي تقود نحو الهدف الأساسي الذي قامت عليه رسالة النبي (صلى الله عليه وآله). وانحازوا عن (الامامة المعصومة) الدرع الحصين لحماية الناس من الوقوع في براثن الطغيان.
الإمامة حكم عقليّ
ان الهدف الأساسي لهذه الخطبة هو إثبات مفهوم الإمامة، لأن المنهج الذي نسير عليه يحتاج إلى قائد وإمام معصوم والقيادة الربانية إلى بر النجاة، والقيادة الجيدة هي القيادة الصالحة التي تسعى لتحرير الانسان، وعكسها هي القيادة السلطوية المستبدة التي تسعى لاستعباد الناس، فلايمكن لأي منهج أن يكون ناجحا مالم يكن هناك قائدا صالحا، وهذا الأمر يُرشد إليه حكم العقل، فالإنسان إذا تاه عن هدفه سوف يبحث عن دليل ليرشده، فكيف إذا تعلق الأمر بالدنيا، لا يُعقَل أن لا يكون هناك إمام معصوم نسير وراءه كدليل لنا.
إذاً الإمامة حكم عقليّ، وأتبعه الله سبحانه وتعالى بالنص عن الإمامة وبعصمتها، لأنه لا يعقل أن لا يكون للإنسان حجة في وجوده بالأرض وهو يتعرض للامتحان الإلهي، لأن امتحان الله تعالى للإنسان فيه حجة باطنة وهي العقل، وأخرى ظاهرة يمثلها الرسول (صلى الله عليه وآله) والإمام المعصوم (عليه السلام)، لذلك حين يقول الله تعالى في كتابه الحكيم: (اليوم أكملت لكم دينكم..)، بعد واقعة الغدير دليل على أن القيادة الصالحة مطلوبة لتطبيق منهج الله تعالى ومنهج الرسول (صلى الله عليه وآله)، وقيادة البشرية نحو الطريق الصالح.
فعلى سبيل المثال في حال إقامة انتخابات، وهناك مرشح صالح وآخر غير صالح، فماذا سيقول لك العقل، من المؤكّد أنه يرشدك لانتخاب الصالح، أما المزاج والاهواء والتعصب والجهل فتوسوس لك انتخاب غير الصالح او الفاسد او لأنه سوف يقدم لك المال، أما العقل فلا يقبل بالفساد ولا بالانحراف.
أهل البيت النموذج الصالح
إن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هم النموذج الصالح الذي يجب أن نتبعه، لأنهم سبل الهداية نحو الحياة الصالحة، لهذا السبب فإن الله سبحانه وتعالى نصّب هؤلاء الأئمة حتى يكونوا حجة علينا، وبسبب مسيرتنا الإسلامية الكبرى نحتاج إلى قادة كبار واستثنائيين، ليكونوا حجة على البشرية كلها، فإذا لم تكن هذه الحجة معصومة سوف تتعرض للخطأ لأن الإنسان إذا تربّع على السلطة سوف يصيبه الطغيان، ويرتكب الذنوب وتكون لديه أقارب وعنده حاشية يغدق عليهم بالأموال، وهذا سوف يصبح منهجا، وإذا أصبح منهجا بالفعل فإن الإنسانية تقع في شباك الفساد. وفي غياب منهج الصلاح والإصلاح يصبح منهج الفساد والافساد هو المنهج الوحيد.
في هذه الحالة سوف تبطل جدوائية الامتحان الإلهي، لذا لابد من وجود حجة في الأرض، يكون نموذجا للناس لكي يُعرّف الحق من الباطل، فإذا لم يكن لدينا إمام معصوم، فلا يمكن معرفة الحق ولا الباطل. وعن الإمام الصادق (عليه السلام) انه قال: (إن الله لم يدع الأرض بغير عالم، ولولا ذلك لم يعرف الحق من الباطل).
لذلك فإن السيدة الزهراء (عليها السلام) أرادت أن تقول للناس إنكم حين غيّرتم الإمام المعصوم (وهو الإمام علي عليه السلام)، فهذا لا يوصلكم إلى الطريق الصحيح ولا إلى طريق النجاة وهذا ما حصل بالفعل، لذلك تقول السيدة فاطمة الزهراء في خطبتها: (فَجَعَلَ اللهُ... وَالعَدْلَ تَنْسِيقاً لِلقُلُوبِ، وَطاعَتَنَا نِظاماً لِلمِلَّةِ، وَإمامَتنَا أَماناً لِلفُرْقَةِ). وسوف نتطرق بالتفصيل لاحقا لمعنى هذه الكلمة، واهميتها في اثبات مفهوم الإمامة وأهميتها لاستمرار منهج الرسول (صلى الله عليه وآله).
الثقافة العميقة
ومن هنا فإننا نحتاج إلى عمل تثقيفي عميق، لأن ترسيخ القيم عند الناس يحتاج إلى عمل مستمر، وعملية بناء، لكن ما نعيشه اليوم هو عملية هدم للأخلاق الصالحة والعقائد السليمة، لذلك إذا أردنا التغيير (إن الله لا يغير قوما حتى يغيروا ما بأنفسهم) والتغيير هو من سنن الله تعالى، علينا الذهاب وراء الثقافة العميقة، ونقرأ أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) بعمق ونجعلها منهجا في حياتنا.
هنالك الكثير من الأحاديث الشريفة تتعلق بالمفاهيم الاجتماعية والأخلاقية والمعاملات التجارية ومفاهيم التربية، والعلاقات الزوجية والصدق والكذب والأمانة والثقة، كل هذه المفاهيم موجودة في منهج أهل البيت (عليهم السلام)، وإذا عملنا بها كمنهج استراتيجي عام في حياتنا، فإننا سوف نتغير نحو الأحسن، لذلك نحتاج إلى تغذية منهجية اساسية بالقيم الصالحة، وإذا لم تغذِّ نفسك وأسرتك ومجتمعك بالقيم الصحيحة سوف تتغذى بالأفكار السلبية والسيئة.
فخطبة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، هي تغذية ثقافية عميقة لنا ولمناهجنا وسلوكياتنا لكي نتغير نحو الأحسن إذا أردنا التغيير.
لماذا يصبح الإنسان سطحيا؟
في مقالاتنا السابقة تطرقنا إلى اللامبالاة وعدم الاهتمام، وهنا في خطبة الزهراء (عليها السلام) تؤكد على إهمال سنن النبي (صلى الله عليه وآله)، وإذا أردنا أن نفهم معنى مفردة الإهمال، فإنها تارة تأتي بمعنى محاربة هذه السنن، لكن المحاربة الأقوى لهذه السنن تحصل بتركها وإهمالها، وعدم العمل بها، وهذا من أخطر الأمور التي قد يقوم بها العدو، وقد يقوم بها الموالي، لأن الإهمال يعني أن الإنسان يهمل نفسه وأبناءه ولا يهتم بقيم أهل البيت (عليهم السلام) وفي هذه الحالة سوف يكون إنسانا سطحيا، لا يعرف ثقافة أهل البيت (عليهم السلام).
لابد للإنسان أن يثقّف نفسه، وأن يتحلى بإرادة التعلّم والتثقيف الذاتي، حتى يستطيع أن يكون في ضمن إطار أهل البيت (عليهم السلام) ولا يخرج عن هذا الإطار، ولا يكفي أن يكون الإنسان مواليا بالكلام فقط أو بالشكل، ولكن يجب أن تكون لديه ولاية لأهل البيت (عليهم السلام) في العمق من خلال معرفة أفكارهم وقيمهم وأحكامهم وأخلاقهم، ولا يهملها ولا يتركها، ويجب أن يعلم أبناءه على هذه القيم منذ الصغر، وهو أيضا يتعلمها، يدرسها، يتدبّرها، حتى يسير في حياته وفق هذا المنهج.
شروط القيادة الناجحة
إذا أردنا أن ندرس المجتمعات التي يقال انها مستقرة وناجحة والأمم التي انهارت، فإننا نلاحظ وجود منهج يقود إلى هذه النتائج، فإذا كانت الدولة تحت قبضة حاكم استبدادي ونظام مستبد، فإنها سوف تخوض في أزمات وصراعات وحروبا تؤدي إلى تدمير الناس والمجتمع واستنزاف الموارد وانتشار البطالة والعنوسة والترمّل والنفاق والانتهازية والخوف، كل هذه الأمور تؤدي إلى تفكيك المجتمع وتدميره.
كل أزمات العالم التي نعاني منها اليوم تحدث بسبب الزعماء والقادة الفاسدين، الذين ينحرفون بالأمم نحو الويلات والمصائب، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك، ومنهم القادة الذين أدمنوا على الحروب ويقتلون الناس ويحرقون الحياة ويهلكون الحرث، فإدمان الحرب هو نتيجة للزعامات الفاسدة، والزعامات الموجودة اليوم تمارس التسلط والفساد من أجل طموحاتها الشيطانية ومصالحها الخاصة، لذلك يؤكد الإسلام على قضية القيادة وولاية الإمام المعصوم (عليه السلام).
تُعرّف القيادة: بالقدرة على تحفيز وإثارة اهتمام مجموعة من الأفراد، وإطلاق طاقاتهم نحو تحقيق الأهداف المنشودة، كما يُمكن تعريف القيادة بأنّها القدرة التي يتميّز بها القائد عن غيره بتوجيههِ للآخرين بطريقةٍ يتسنّى بها كسب طاعاتهم واحترامهم وولائهم، وشحذ هممهم، وخلق التعاون بينهم في سبيل تحقيق هدف بذاته.. ويقود الناس بطريقة سهلة مرنة نحو الأهداف المنشودة.
أما القيادة الصالحة لأهل البيت (عليهم السلام) فهي قيادة مطلقة نحو أهداف مطلقة ثابتة غير متغيرة، وهي سنن الله تعالى في الكون وسنن نبيه (صلى الله عليه وآله)، لذلك هذه القيادة لها هدف ولا بد أن توصل الناس إليه، كربّان السفينة في البحر الواسع العميق، القادر على مواجهة العواصف والأعاصير ومعرفة الطريق جيدا، لأن البحر قد يخلو من الإرشادات ويحتاج إلى أن يكون الربّان ذكيا، ويكون على معرفة بمواقع النجوم، ويعرف الأماكن الخطرة في البحر حتى لا يصطدم بالصخور والجبال الموجودة تحت مستوى سطح البحر ويفهم إلى أين يسير.
قيادة السفينة تحتاج إلى ربان صالح وذكي كفؤ، حتى يستطيع أن يوصل الناس إلى بر الأمان، كذلك هي القيادة، وقمة القيادة تتمثل بقيادة الائمة المعصومين (عليهم السلام).
أنواع القيادة
القيادة تنقسم إلى أنواع وسوف نتطرق لأنواع القيادة من ناحية إيجابية لمعرفة الجانب السلبي لها.
أولا القيادة بالهداية:
الإمام هو الذي تهتدي به الأمة ولا تضلّ، فأسوأ شيء هو الضلال حين يسير الإنسان في طريق الانحراف العقائدي أو السياسي أو الاجتماعي ومختلف أنواع الانحراف والضلال. فالقائد يجب أن يكون هاديا وله القدرة على الإرشاد والهداية ويكون قادرا على إيصال الناس إلى بر النجاة، يقول القرآن الكريم: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عابدين) الأنبياء 73. ولضمان الوصول الآمِن لابد من وجود قائد مثل ربّان السفينة كي يصل بالناس إلى برّ الهداية.
يقول الإمام الباقر (عليه السلام): (يخرج أحدكم فراسخ فيطلب لنفسه دليلا وأنت بطرق السماء أجهل منك بطرق الأرض، فاطلب لنفسك دليلا)، فالإنسان يحتاج إلى دليل في الصحراء لأنه سوف يتيه فيها ولا يستطيع الخروج منها، في السابق لم تكن الشوارع والإشارات الدالة كما هو الحال اليوم، فهناك علامات وأرقام وأسماء للشوارع، فهناك أدلّة تهتدي بها. الدليل هو القائد، فإذا أردت أن تسير في طرق السماء عليك أن تطلب لنفسك دليلا، وهو الإمام المعصوم الذي يوصلك إلى السماء والدين الحقيقي وإلى الله سبحانه وتعالى.
والقيادة هي الهداية، والقائد الذي يضلِّ الناس هو قائد فاشل وبدلا من أن يأخذ الناس في الطريق الصحيح يُسقطهم في الهاوية.
ثانيا- القيادة بالنموذج:
الناس يصبحون صالحين بوجود النموذج القيادي الصالح فيتبعونه باقتناع وحرية (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) الأحزاب 21. فكان الرسول (صلى الله عليه وآله) نموذجا كبيرا للقيادة العظمى.
هل يُعقَل أن يكون القائد الفاشل أو غير الكفؤ نموذجا يقتدي به الآخرين؟ فهناك من قبض على السلطة بالنار والحديد، لكنهم يمثلون نماذج فاشلة لدرجة أنهم ذهبوا أدراج الرياح دونما رجعة ولا تذكرهم الناس بخير.
فإذا كان للإنسان نموذجا صالحا يقتدي به كرسول الله (صلى الله عليه وآله) أو الإمام المعصوم (عليه السلام)، فهذا الإنسان يصبح صالحا ويسير في الطريق المستقيم، أما إذا سار وراء نموذج سيّئ فسوف يكون سيئا مثله. لذلك حين جاء في كتاب الله الكريم (ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فهذا دليل على وجود الصفات العظيمة عند الرسول (صلى الله عليه وآله)، وهي التي ميّزت هذه الشخصية العظيمة، لكي نقتدي بهداه ونتعلم منه الطريقة الجيدة في الحياة.
وللبحث تتمة حول مفهوم الامامة والقيادة في كلمات السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)...
اضف تعليق