والتوفيقُ بين البُنية والوظيفة يَحُول دُون تَحَوُّلِ الذوات الإنسانية إلى أصنام، وَتَحَوُّلِ النظام الاجتماعي إلى طُقوس، وتَحَوُّلِ الأفكار المُبْتَكَرَة إلى أجِنَّة مَيتة. لذلك، يجب المحافظة على حركة العناصر الإبداعية في المجتمع، ومنع تَوَقُّفها، حتى تَصِير تَيَّارًا معرفيًّا مُستمرًّا، ومَشروعًا تنمويًّا دائمًا، ونموذجًا حضاريًّا رائدًا. وعُذوبةُ الماء...
(1)
بُنية المجتمع الإنساني عِبارة عن شبكة مِن أنظمةِ التاريخ المعرفية، وأنساقِ المعنى المُنظَّمة، وظواهرِ الوُجود الثقافية، وتقاطعاتِ اللغة الرمزية. وهذه الشبكة تُمثِّل الأساسَ العقلاني للمنهج الفكري الذي يَمنح الشرعيةَ للبناء الاجتماعي، ويُكوِّن المفاهيمَ المركزية الحياتية التي تُنظِّم النشاطَ الاجتماعي، وتَقُوده نَحْوَ تحقيقِ الحاجات الإنسانية، وتَلبيةِ الرغبات الفردية، وتَفعيلِ الأحلامِ الجماعية.
وبما أن أفراد الجماعة مُرتبطون بعلاقات أخلاقية، ومُلتزمون بمبادئ التاريخ المُشترك، ومُنخرطون في عمليات نفعية مُتبادلة، فلا بُد أن تَظهر قواعد جديدة للوَعْي الاجتماعي، تَكُون بمثابة أنوية لِسُلطة التفاعل بين الذاتِ والشَّيء مِن جِهة، والحقيقةِ والفِعْل مِن جِهة أُخرى. وسُلطة التفاعل ذات طبيعة تراكمية، لا تُولَد دَفْعَةً واحدةً، وإنَّما تُولَد وَفْق مراحل قَصْدِيَّة غَير تلقائية، حَيث تَبدأ هذه السُّلطةُ بالتَّشَكُّل كمفهوم، ثُمَّ تُصبح سُلوكًا مُعاشًا وعادةً يوميَّةً، ثُمَّ تتحوَّل إلى قِيَم وجودية ومعايير إنسانية، ثُمَّ تَصِير كِيَانًا فلسفيًّا يَعترف به الأفراد، ويَلْتَفُّون حَوله، لأنَّه يُحقِّق المنفعةَ الشخصيَّة، والمصلحةَ العامَّة.
وكُلُّ كِيَان فلسفي إذا صارَ ضرورةً للمُجتمع أفرادًا ومُؤسسات، فإنَّه سيتطوَّر إلى بناء اجتماعي. وإذا اكتملَ هذا البناءُ، فإنَّ المنظومة الإبداعية الحياتية ستصبح كاملةً، وقابلةً للتطبيق على أرض الواقع. وهذه المنظومة هي التي تُولِّد خصائصَ الفِعل الاجتماعي، وتُحدِّد وظيفةَ الإنسان الاجتماعية داخل النسق الحضاري الشامل، وتُعطي الزخمَ للنشاط الاجتماعي كَي يتحرَّر من الضغوطات الماديَّة، وتُجمِّع العناصرَ الفكرية المُبعثرة في تفاصيل الحياة الاستهلاكية، وتُؤَسِّس الوَعْيَ الإنساني على قاعدة اجتماعية صُلبة. وهذا الحراك يتشكَّل في الذهن قبل الواقع، ويتجسَّد في التصوُّرات قبل المَوجودات.
(2)
النظام الاجتماعي هو تنظيمٌ لإفرازات الوَعْي التاريخي، وتكثيفٌ لمناهج تحليل الشُّعور، وتَوحيدٌ لأجزاء الذات الإنسانية المُتشظِّية في الاغتراب الوِجداني، وتفسيرٌ لمصادر المعرفة التي تُمثِّل وحداتٍ وظيفية ومُركَّباتٍ حضارية. لذلك يَستطيع النظامُ الاجتماعي أن يُكيِّف نَفْسَه معَ المراحل الزمنية المُختلفة، ويتأقلم معَ الحاجاتِ الإنسانية المُتغيِّرة. لكنَّ الإشكالية تَكمن في إيجاد حاضنة للنظام الاجتماعي، تَضمن له النُّمُوَّ بشكل طبيعي، حتى يتمكَّن مِن توليد السُّلوك الاجتماعي الواعي غَير الارتجالي. والحاضنةُ هي كَينونةٌ معنوية لها أهداف واضحة، ووجودها يعني منعَ التعارض بين بُنيةِ المجتمع الإنساني والوظيفةِ الوجودية التي يُؤَدِّيها النظام الاجتماعي.
والتوفيقُ بين البُنية والوظيفة يَحُول دُون تَحَوُّلِ الذوات الإنسانية إلى أصنام، وَتَحَوُّلِ النظام الاجتماعي إلى طُقوس، وتَحَوُّلِ الأفكار المُبْتَكَرَة إلى أجِنَّة مَيتة. لذلك، يجب المحافظة على حركة العناصر الإبداعية في المجتمع، ومنع تَوَقُّفها، حتى تَصِير تَيَّارًا معرفيًّا مُستمرًّا، ومَشروعًا تنمويًّا دائمًا، ونموذجًا حضاريًّا رائدًا. وعُذوبةُ الماء تتجلَّى في جَرَيانه وعدم ثباته، وكُلُّ ماء راكد سَيُصبح آسِنًا ينتظر الحَجَرَ الذي يُحرِّكه.
(3)
السُّلوك الاجتماعي لا يُمكن أن يُصبح نظامًا معرفيًّا مُستمرًّا ودائمًا، ومُعْتَرَفًا به، ومُوَافَقًا عليه، إلا إذا تمَّت إزالةُ كافة العقبات أمام التغيُّرات الإيجابية في المُجتمع، وتحويلُ انعكاسات حركة التاريخ على الفرد والجماعة إلى ظواهر واعية وتنظيمات مقصودة، من أجل تحقيقِ الأهداف الخاصَّة، وتنفيذِ الطموحات العامَّة، وَدَمْجِ إفرازات النشاط الاجتماعي في بيئة الإبداع، وتدعيمِ منظومة الحقوق والواجبات، وتنظيمِ مراحل التغيُّر الاجتماعي بما يتلاءم معَ طبيعة الظواهر الثقافية، ووفقًا للمسار الحياتي العام، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تكامُل شخصية الفرد في ظِل المأزق الوجودي، واكتمالِ ماهيَّة المجتمع في ظِل التحديات المصيرية.
وهذه الثنائية العابرة للتَّجنيس الأيديولوجي وحُدودِ الزمان والمكان (تكامُل الشخصيَّة/ اكتمال الماهيَّة) تَمنع ذِكرياتِ الفرد مِن التمرُّد على ذاكرة المجتمع، وتَحْمِي ذاكرةَ المجتمع مِن الذَّوَبَانِ في الأفعال الارتجالية والحالات المِزاجية، والاضمحلالِ في الوَعْي المُزَيَّف الذي يُنتج تاريخًا خياليًّا لا وُجود له على أرض الواقع.
اضف تعليق