تعكس تلك الاتهامات أهمية كازخستان بالنسبة للروس والامريكان، إذ تعد الجائزة الأكثر قيمة في الصراع الجيوسياسي بين روسيا والغرب، ولاسيما بالنسبة للولايات المتحدة. فروسيا تتخوف من سيطرة القوى الليبرالية ذات التوجه الغربي على البلاد؛ لأن ذلك من شأن أن يسمح بإبقاء آسيا الوسطى بأكملها تحت السيطرة الغربية...

اندلعت الاحتجاجات في كازخستان يوم الاحد الماضي بعد عطلة اعياد الميلاد في مدينة جيناوزين، مركز صناعة النفط في كازخستان لتمتد سريعاً إلى مدناً اخرى ومنها مدينة (المآتي) العاصمة الاقتصادية وكبرى مدن البلاد، التي سقط فيها عدد من المحتجين، مظاهرات اندلعت ظاهرياً بسبب رفع اسعار الغاز المسال، الذي يعد المصدر الاول لوقود غالبية السيارات وانتاج الكهرباء ومصدر الطاقة الرئيس للطهي والتدفئة في المنازل، في بلد يصنف كأحد اهم الدول المصدرة والمنتجة للغاز في العالم، فضلاً عن امتلاكه احتياطياً نفطياً ضخماً.

إلا أن هذه الاحتجاجات سرعان ما تحولت إلى احتجاجات سياسية في بلد لا يوجد في برلمانه او في نظامه السياسي معارضة سياسية او برلمانية، ويمنع فيه التظاهر الا بموافقة الحكومة، إذ تعد المعارضة والاحتجاجات من الأمور غير الشائعة في كازخستان؛ نتيجة لذلك سارعت الحكومة إلى إعادة اسعار الغاز إلى سابق عهدها، كما أعلن الرئيس قاسم توكاييف حالة الطوارئ على مستوى البلاد واقالة الحكومة، إلا أن هذه الاحتجاجات لم تتوقف.

إن كازخستان ما تزال تعاني من حكم الفرد المطلق، وهو النظام الذي ارساه الرئيس نور الدين نزارباييف، الذي حكم البلاد لثلاثة عقود، وظل يحكمها حتى قرر أن يتنحى شكلياً في العام 2019 بعد أزمة الاحتجاجات آنذاك، تاركاً خلفه رئيساً موالياً يدعى قاسم جومارت توكاييف وهو الرئيس الحالي، الذي غير اسم العاصمة الكزخية من الأستانة إلى اسم الرئيس السابق نور سلطان، في الوقت الذي بقي فيه نزار باييف مسيطراً على مقاليد الحكم الفعلية، بصفته رئيس مجلس الأمن وقائد الامة، وهو دور دستوري يمنحه مزايا فريدة في صنع القرار.

ففي هذه الاحتجاجات ابدى المحتجون امتعاضهم من الرئيس السابق نزارباييف واسقطوا تمثاله وهتفوا ضده؛ ونتيجة لذلك اتخذ الرئيس قاسم توكاييف قراراً بفصله من منصبه في محاولة منه لتهدئة الوضع والسيطرة على حركة المحتجين، لكنها تصاعدت بشكل اكبر بعد سقوط قتلى وجرحى من المحتجين؛ الأمر الذي دفع الرئيس توكاييف الى المطالبة بدعم روسي تحت بند (منظمة معاهدة الامن الجماعي) وهي منظمة للتحالف العسكري الذي تقوده روسيا، ويضم دولاً سوفيتية سابقة مثل (أرمينيا وكازخستان وقيرغيزستان وطاجكستان واوزبكستان) ليتم الإعلان عن وصول طلائع قوات منظمة الامن الجماعي إلى كازخستان، التي سيطرت على مطار المآتا بشكل كامل بالتزامن مع وصول التعزيزات الروسية إلى كازخستان.

يبدو ان أزمة كازخستان التي تثور بين الفينة وأخرى، ليست أزمة داخلية فقط، أو احتجاجات تتكرر على ارتفاع اسعار الغاز فقط، (نعم) هي في الاصل تعبير عن الغضب العميق والمتأجج والاستياء من فشل حكومة كازاخستان في تحديث بلادهم وتقديم الإصلاحات التي تؤثر على الناس على جميع المستويات، والفساد السياسي والمالي والدور السياسي الذي ما يزال يحتفظ به الرئيس السابق نزارباييف، فضلاً عن شكلية النظام السياسي وضعف السلطة التشريعية التي تغيب فيها المعارضة السياسية لمراقبة ومحاسبة عمل الحكومة، بل هي خليط من تراكمات سياسية واقتصادية وامنية عدة، لا يخلو الامر فيها من لمسة جيوسياسية في دائرة الصراع بين روسيا والغرب بشكل عام، وروسيا والولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص.

صراع بانت بوادره بالاحتجاج الامريكي على طلب الرئيس الكازاخستاني المساعدة العسكرية من روسيا، إذ حذرت الخارجية الامريكية من تداعيات هذه الطلب على لسان وزير خارجيتها بلينكن بقوله: أن "أحد الدروس المستفادة من التاريخ الحديث هو أنه بمجرد وصول الروس إلى منزلك، يكون من الصعب جدا في بعض الأحيان إقناعهم بالمغادرة".

وتعد الولايات المتحدة الأمريكية أول دولة تعترف باستقلال كازخستان عن الاتحاد السوفيتي عام 1991 بعد تفككه، ومنذ ذلك التاريخ تحاول كازخستان أن تتبع سياسية خارجية متوازنة بين اقطاب النظام الدولي والقوى الكبرى، على الرغم من ان حدود دولتها تتقاسمها اكبر دولتين هما (الصين من الشرق وروسيا من الشمال)، إلا انها فعلياً تدور في فلك النفوذ الروسي المتحكم في دائرة الصراع في اسيا الوسطى تقريباً، فمع بداية انطلاق الاحتجاجات في كازخستان، ربطت بعض الصحف الروسية والرئيس الكازاخي انطلاق الاحتجاجات بدور خارجي تلعبه اياد خارجية، في إشارة إلى دور الولايات المتحدة الامريكية.

إذ يرى بعض المتخصصين وخبراء أميركيين "أن موسكو لا تريد أن يقدم النظام في كازاخستان تنازلات للمعارضة وللمتظاهرين، في وقت أشارت فيه صحف روسية إلى أن ما يجري في كازاخستان هو (خدعة قذرة تستهدف موسكو) قبل المحادثات المهمة بعد أيام حول أزمة أوكرانيا بين واشنطن وحلف الأطلسي وروسيا". في الوقت الذي نفى فيه المتحدث باسم الخارجية الأمريكية (جين ساكي) تلك الاتهامات او الادعاءات الروسية بقوله: بأنها "اتهامات او ادعاءات زائفة، وهو جزء من كتاب الخداع الروسي للتضليل الذي رأيناه على مدار السنوات الماضية".

وتعكس تلك الاتهامات أهمية كازخستان بالنسبة للروس والامريكان، او بين الروس والغرب بشكل عام، إذ تعد الجائزة الأكثر قيمة في الصراع الجيوسياسي بين روسيا والغرب، ولاسيما بالنسبة للولايات المتحدة. فروسيا تتخوف من سيطرة القوى الليبرالية ذات التوجه الغربي على البلاد؛ لأن ذلك من شأن أن يسمح بإبقاء آسيا الوسطى بأكملها تحت السيطرة الغربية، فضلا عن إيجاد مشاكل كبيرة لروسيا والصين. فضلاً عن ذلك يرى بعض المراقبين للشأن الكازاخي، بأن النخبة الحالية بمجموعها تقريبا درست بالجامعات الغربية، ولاسيما الجامعات البريطانية، وأن هناك بعض وكلاء النفوذ والتأثير، ممن يسعون لتعزيز التكامل متعدد الأوجه مع الاتحاد الأوروبي، على حساب العلاقات مع موسكو.

وهذا ما يثير المخاوف الروسية من الاحتجاجات الكازاخستانية بشكل عام، مخاوف تعززت بعد عملية رصد لوسائل التواصل بالجمهورية السوفياتية السابقة بالعثور على أعداد كبيرة من مقاطع الفيديو باللغتين الروسية والكازاخية المناهضة لروسيا وفي حالة مشابهة لمقدمات الثورة الملونة بأوكرانيا. وهذا ما يبقي الأزمة الكازاخستانية تحت دائرة الصراع الجيوسياسي الروسي –الأمريكي، أو الروسي– الغربي، على الرغم من مشروعية الاحتجاجات الشعبية في البلاد؛ كونها منطقة صراع وتنافسي جيوسياسي بين اقطاب النظام الدولي، التي تسعى للسيطرة على منطقة حيوية ومهمة، منطقة تتوسط أسيا وأوروبا مثل كازاخستان.

هذا التنافس سيدفع ضريبته بالتأكيد الشعب الكازاخي، الذي يترنح تحت سلطة ونظام غير ديمقراطي، ويفتقد كثيراً إلى احترام حقوق الإنسان، كما دفع الشعب العراقي وما يزال يدفع ضريبة التنافس الدولي والإقليمي في منطقة الشرق الاوسط.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2022
www.fcdrs.com

اضف تعليق