ان ازمة العراق اليوم، دولة ومجتمعا وحكومة ابعد واعمق من الاسماء والمسميات، بل هي تغوص عميقا في ابعد نقطة من الاختلالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية في المركب الحضاري للمجتمع والدولة ومنظومة القيم العليا الحافة بعناصره الخمسة وفي مقدمتها الانسان الذي يخوض في كل تفاصيل العملية السياسية الراهنة...
بعد يومين (الاحد ٩ كانون الثاني) تفتح الصفحة الاولى في الفصل الجديد لتاريخ الدولة العراقية حيث سوف تعقد الجلسة الاولى لمجلس النواب الجديد بعد ٣ أشهر من اجراء الانتخابات. وهذه الفاصلة الزمنية الطويلة بحد ذاتها مؤشر على عمق التردي والتدهور في حياة هذه الدولة البائسة.
وليس ثمة امل كبير في ان تكون الجلسة الاولى فاتحة عهد جديد أفضل من سابقه، ذلك لان "الفكرة السياسية الحاكمة" مازالت نفسها، حيث لم يتبدل شيء من المشهد السياسي ومعادلاته. فمازالت الطبقة السياسية الفاشلة تدير الدولة بنفس العقلية البدائية المتخلفة، والتي لا تملك مشروعا حقيقا لاعادة بناء الدولة وتأهيلها ولخدمة المجتمع وسعادة الانسان. وهو الهدف الحقيقي المفترض لاي مشروع اصلاحي ترفع راياته.
ربما اختلفت هذه الطبقة على عناوين الحكومة التي تزمع تشكيلها، وهي "شاطرة" باختراع العناوين والاسماء منذ عام ٢٠٠٣ الى اليوم دون ان تختلف هذه العناوين في مضمونها ومحتواها وجوهرها وهو اقتسام الكيكة والمغانم والمناصب والمكاسب واهمال الدولة والمجتمع والانسان وتجاهل ضروراتهم السياسية والمعاشية.
في نهاية المطاف، وفي الساعات الاخيرة التي سوف تسبق صباح يوم الاحد، سوف تنحصر نقاشات ومناورات الطبقة السياسية حول شخص واحد سوف يكلّف بتشكيل مجلس الوزراء، على اعتبار ان الاسمين الاخرين في ثلاثية الرئاسات يتم حسمهما داخل مكونيهما. فلا يبقى الا اسم "رئيس الوزراء المكلف". وانه لمن سوء حظ العراق والعراقيين ان يتم اختزال واختصار كل قضية العراق باسم هذا الانسان الذي قد يأتي من المجهول، كما حصل بالنسبة لرئيس الوزراء المنتهية ولايته وصلاحيته، ليسلموه اخطر منصب تنفيذي في الدولة العراقية.
ومن سوء الحظ ان تنحصر نقاشات امراء الاقطاعيات السياسية وترشيحاتهم بعدد محدود من الاسماء "المجربين" سابقا، والذين لم تدل تجاربهم السابقة على كونهم عباقرة زمانهم وفلتات عصرهم. ذلك ان هؤلاء الامراء يخشون ان يخرج الامر من ايديهم ويتولاه من هو اكثر علما وذكاء وخبرة وقدرة منهم. صار الامر كما كان عليه ايام الدولة العباسية في عصور انحطاطها حيث يقوم امراء الجند بتولية اضعف الموجودين من بني العباس الخلافة ليسهل عليهم التلاعب بهم والسيطرة عليهم.
ليت امراء الاقطاعيات السياسية عندنا يعرفون ان مصير العراق على المحك وانه اكبر من الاسماء التي يتداولونها، وان عليهم ان يضعوا مصلحة العراق فوق مصالحهم الشخصية والحزبية والفئوية، وانّى لهم ذلك، فما لهذا تصارعوا في حلبة السياسة.
ان ازمة العراق اليوم، دولة ومجتمعا وحكومة ابعد واعمق من الاسماء والمسميات، بل هي تغوص عميقا في ابعد نقطة من الاختلالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية في المركب الحضاري للمجتمع والدولة ومنظومة القيم العليا الحافة بعناصره الخمسة وفي مقدمتها الانسان الذي يخوض في كل تفاصيل العملية السياسية الراهنة. وان اي حل يستهدف الخروج من الازمة الحالية يجب ان ينبثق من وعي سياسي علمي عميق لها، ولهندسة بناء الدولة على اسس حضارية وحديثة. وهذا هو بالضبط ما تتضمنه الدعوة الى اقامة الدولة الحضارية الحديثة في العراق. وهي الصيغة التي تضمن معالجة الاختلالات، بل الوقاية منها مستقبلا، ووضع العراق على الطريق المؤدي الى توفير حياة سعيدة للانسان. قد يتطلب هذا الاتيان بطبقة سياسية جديدة مدركة لهذه الحقيقة، ويومان لا تكفي لذلك بطبيعة الحال، لكن في هذا دالة حضارية لما ينبغي ان يكون عليه العمل في السنوات الاربع المقبلة. فما فاتنا تحقيقه في هذه المرة يمكن الاشتغال عليه في الفترة القادمة اذا توفرت المعرفة الصحيحة، والارادة، والامل.
اضف تعليق