ضرورة الفصل الموضوعي، بين الأشخاص والأفكار، إذ إن الدمج والتماهي بين الطرفين، يؤدي إلى بروز نزعات الاستبداد والهيمنة، وإخضاع الأفكار والقيم إلى المصالح الضيقة للزعيم أو الشخص أو الأشخاص الذين يتبوأون لأي سبب كان موقعية متقدمة في المحيط الاجتماعي، الذي يناصر هذه الأفكار، ويعتبرها جزءا من وجوده وحياته...
فالأفكار لا تدرس مجردة، وإنما تدرس في إطار تجربتها الواقعية أي معرفة مستوى التأثير المتبادل بين الأفكار والواقع. وذلك من أجل أن يكون تصورنا ورؤيتنا عن هذه الأفكار رؤية دقيقة وموضوعية
لا شك أن دراسة المنظومات الفكرية والثقافية، دراسة مجردة عن واقعها وتجربتها ونماذجها وتاريخها الاجتماعي والسياسي، لا يؤدي بنا إلى السبيل الصحيح، والسبب في ذلك يرجع إلى أن الواقع والتجربة والتاريخ، أصبح جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الفكرية، بل عن طريقها "التجربة" نستطيع اكتشاف وسبر أغوار المنظومة، حتى نتعرف عن إمكاناتها، وآليات عملها، والقاعدة الاجتماعية التي تستند عليها.
لذلك وحتى يكون منهجنا موضوعيا، في دراسة وتقويم المنظومات الفكرية والثقافية، ينبغي أن لا نعزلها عن واقعها التاريخي والاجتماعي، وبالتالي عن السياق الحضاري، الذي تنطلق منه، وانتزعت غاياتها وأهدافها منه أيضاً.
فالمنظومات الفكرية، ليست منفصلة عن جذورها العقدية والفلسفية، بل هي انعكاس لها، وترجمة إنسانية إلى بنودها ومبادئها.
فالجذور العقدية والفلسفية، تمثل الحافز الضخم، الذي يحرك العقل، ويثير المواهب، ويراكم الخبرات، وينمي العلم، وتدفع دائما باتجاه التطوير والتغيير.
ولكن هذا لا يعني أنه إذا فشلت التجربة أو تعثرت، فيكون دائما من جراء المنظومة الفكرية باعتبارها جملة مبادئ وخيارات.
فليس بالضرورة، فشل التجربة فشلاً للمنظومة الفكرية، لأن هناك عوامل عديدة للفشل والإخفاق مرتبطة بالواقع الاجتماعي والاقتصادي، والتغافل عن هذه العوامل، وإلصاق التبعة بالمنظومة الفكرية، لا يؤدي إلى التشخيص السليم للواقع والتجربة. وإنما من الضروري أن يكون التقويم دقيقاً وموضوعياً وبعيداً عن كل المسبقات الفكرية والسياسية.
وهذا بطبيعة الحال، يؤكد على ضرورة الفصل الموضوعي، بين الأشخاص والأفكار، إذ إن الدمج والتماهي بين الطرفين، يؤدي إلى بروز نزعات الاستبداد والهيمنة، وإخضاع الأفكار والقيم إلى المصالح الضيقة للزعيم أو الشخص أو الأشخاص الذين يتبوأون لأي سبب كان موقعية متقدمة في المحيط الاجتماعي، الذي يناصر هذه الأفكار، ويعتبرها جزءا من وجوده وحياته.
ونظرة فاحصة إلى واقع العديد من بلدان العالم العربي والإسلامي، سنكتشف أن أحد الأسباب الرئيسة لبروز نزعات الاستبداد والهيمنة، هو التماهي والدمج الشديد بين الرجال والقيم بحيث يتحول الرجال، إلى المعيار الوحيد في تقويم الأمور والأفكار، فالاختيارات الفكرية صحيحة، ما دام الرجال قالوا بذلك بعيداً عن الدراسة الواعية والموضوعية لتلك "الاختيارات الفكرية" وهي خاطئة وسقيمة ما دام الرجال عارضوها، ووقفوا موقفاً مضاداً منها.
فالكثير من نزعات الهيمنة والإقصاء، هو من جراء التماهي والدمج الشديد والأبله، بين الأفكار والرجال، ومادام الدمج مستمراً، فإن البنية الاجتماعية والثقافية، التي تولد نزعات السيطرة مستمرة ومستديمة.
لهذا من الأهمية بمكان، إيجاد مسافة بين الأفكار والقيم، والتجارب التاريخية والبشرية لهذه الأفكار. إذ فشل التجربة، لا يعني بالضرورة فشلا للفكرة.
فسقوط أي تجربة تاريخية، لا يعني الحكم الكاسح على المشروع الفكري بالفشل.
وإنما من الضروري، أن نبحث عن العوامل الحقيقية التي أدت إلى فشل وإخفاق التجربة البشرية المعتمدة على تلك الأفكار. فالتماهي والتطابق التام، بين المبدأ والواقع ليس بمقدور الإنسان القاصر والنسبي فعله.
وإنما مهمته الحقيقية، تتجسد في التشخيص السليم لواقعه، ثم العمل ضمن إمكاناته إلى معالجة الأمور والأمراض التي يعاني منها ذلك الواقع، وفشل هذا الإنسان في التشخيص أو المعالجة، لا يعني البتة، الفشل الجذري القابع في أصول أفكاره وأسس ثقافته واختياراته العامة. إذ في كثير من الأحيان، يكون الفشل، وليد العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وليس من جراء انحراف النظرية الفكرية.
وهذا يدفعنا إلى القول، بضرورة الفصل الموضوعي في مستوى تقويم النظريات، ومساحة فعلها في الواقع الاجتماعي، بين الأفكار الكبرى التي انطلقت منها هذه النظريات، وبين الواقع الاجتماعي والحضاري الذي عملت وتحركت في فضائه هذه النظريات. وذلك حتى يكون تقويمنا إلى التجارب الإنسانية عادلاً، لأن آفة العدالة في التقويم، هي إسقاط الأفكار الخاصة أو المواقف المسبقة والقبلية على واقع مغاير زماناً ومكاناً وبشراً.
وحتى لا نقع أسرى التبرير والتسويغ الدائم، نقول إن من الأخطاء الكبرى، التي قد يقع فيها الكثير من الناس حين تقويم الأفكار والنظريات الثقافية، هو إلباس الفهم الإنساني لباس المطلق والخلود، إذ إن التعاطي مع الأفكار المنتجة بشرياً وكأنها خالدة وصالحة لكل زمان ومكان، هو الذي يؤدي إلى بروز حالات الدمج والتماهي المطلق بين الأفكار والرجال، بحيث يكون الرجال هم المرجعية المعرفية الأخيرة، وهذا بطبيعة الحال يشوه الأفكار ويجعلها حبيسة فهم بشري محدود.
ولعلنا لا نبالغ حين القول، إن الكثير من المشكلات التي يعاني منها العالم العربي والإسلامي، هي في المحصلة الأخيرة وليدة إعطاء صفة المطلق والخلود للفهم الإنساني، مما يؤدي إلى التعسف في التقويم والمعالجة، والقفز على حقائق الأمور ووقائع الزمن.
وحتى نخرج من هذا النفق المظلم الذي يؤدي إلى تراجع الأفكار والقيم، لصالح النزعات الفردية والمصلحية، ينبغي التأكيد على النقاط التالية :
1) ضرورة توفير مناخات سياسية وثقافية واجتماعية، لتبادل الآراء والأفكار بانسياب، وذلك لأن توفر هذه المناخات، هو الذي يخلق الظروف والتقاليد الضرورية لإعادة التوازن للعلاقة بين الأفكار والأشخاص.
2) العمل المستديم لإيجاد مسافة نقدية، بين عالم الأفكار والأشخاص، حتى لا تطغى النوازع الفردية، وتكون هي الفيصل في الأمور والقضايا. وتتأتى المسافة النقدية التي نراها ضرورية بين عالم الأفكار والأشخاص، جراء الفهم العميق والواعي للأفكار، تاريخها والظروف العامة التي نشأت فيها، والغايات التي صنعتها، والقاعدة البشرية التي اعتمدت عليها في تحقيق ذلك. فالفهم العميق للأفكار، هو الذي يمنع من تسلط الرجال عليها، لأن في كثير من الأحيان، تكون الواسطات البشرية بين عالم الأفكار وعالم الأشخاص، هي التي تهيىء الأرضية إلى التماهي المطلق بين العالمين.
3) ضرورة إحداث نقلة نوعية في الحياة الثقافية والفكرية العربية، قوامها إعطاء الأولوية إلى البرامج ومشاريع العمل، وليس إلى الشعارات الأيدلوجية الكبرى.
لأن الاستغراق في هذه الشعارات الطوباوية، يحول دون توفر حياة ثقافية عربية سليمة.
فالعلاقة بين الأفكار والواقع علاقة مركبة وجدلية في آن. بمعنى أن الواقع يؤثر في حركة الأفكار فيصوب بعض جوانبها ويضيف بعض أبعادها ويهذب بعض تجلياتها. كما أن حركة الأفكار تساهم في التأثير والتوجيه على حركة الواقع فلا يوجد لدينا واقع بعيد عن الأفكار التي ساهمت في صنعه. كما أن الأفكار لا يمكن أن نتعرف عليها حق المعرفة بدون إدراكها في سياق الواقع ومتغيراته.
لهذا فإن المطلوب دراسة الأفكار استنادا إلى بيئتها الاجتماعية وتجربتها الإنسانية. فالأفكار لا تدرس مجردة، وإنما تدرس في إطار تجربتها الواقعية أي معرفة مستوى التأثير المتبادل بين الأفكار والواقع. وذلك من أجل أن يكون تصورنا ورؤيتنا عن هذه الأفكار رؤية دقيقة وموضوعية.
فتجربة الأفكار الواقعية، هي المدخل الفعال لمعرفة جوهر هذه الأفكار، ومستوى الحيوية والفعالية الذي تمتلكه، ومدى قدرتها على المساهمة في معالجة أهم المشاكل التي تواجه الإنسان والمجتمع.
اضف تعليق