السَّيْرُ في طريق الحقيقة لا يَستلزم الوصول إلَيها. وكَم مِن مُريد للخَير لا يُصيبه والأفكارُ المُختلفة هي طريق التكامل لا التصادم، والنقدُ الحقيقي أكثر أهمية مِن المَدح الزائف، والأشخاص الذينَ يُقَدِّمون نَقْدًا قائمًا على قواعد المنهج العِلمي حتى لَوْ كانوا يَكرهوننا ويَحقِدون عَلَينا إنَّما يَكشِفون عُيوبَنا، ونِقاطَ ضَعْفنا...
(1)
الربط بين الوَعْي الإنساني والمعنى الجوهري للفِعل الاجتماعي، لا يتمُّ وفق إجراءات ميكانيكية أوْ مُصَادَفَات عَبَثِيَّة، وإنَّما هو حراك ذهني مَقصود، له امتداد واقعي هادف. وهذا الامتداد يَكشف ماهيَّةَ الوسيلةِ وطبيعةَ الغايةِ، والبُنيةَ الرمزية اللغوية التي تقوم بمُهمة ترسيم الحدود الفاصلة بين الفِعل الاجتماعي (السلوك الإنساني الإرادي الذي يَملِك مسارًا واضحًا وهدفًا مُحَدَّدًا) وبين الفاعل الاجتماعي (الشخص الذي يَملِك وَعْيًا ذاتيًّا ويقوم بدَور واقعي في بيئته المُحيطة).
والتمييزُ بين الفِعل والفاعل في البُنى الاجتماعية يَبدو سهلًا وبسيطًا للوَهْلَة الأُولَى، ولكنَّه شديد التعقيد، لأنَّ البُنى الاجتماعية عبارة عن تراكمات تاريخية، ومفاهيم مُخْتَلِطَة مِن الماضي والحاضر، وأزمنة مُتَشَعِّبة، وأمكنة مُنْفَتِحَة، وحَيَوَات مُمْتَزِجَة، ومُتواليات وجودية مِن الفِعل ورَد الفِعل. وكُلُّ عُنصر اجتماعي في هذه الصِّيَغ المُتكاثرة عبارة عن بناء قائم بذاته، ويَملِك صَوْتًا خاصًّا به.
وفي ظِل اختلاط الأصوات في الحياة الماديَّة السريعة، يُصبح مِن الصعب التمييز بين الفِعل ورَد الفِعل مِن جِهة، والفِعل والفاعل مِن جِهة أُخرى. وفي كثير من الأحيان، يتمُّ حَصْر الوَعْي الاجتماعي في دائرة الأثَر بدُون ظُهور للمُؤثِّر. والأمرُ يُشبِه السَّيْرَ في غابة كثيفة الأشجار، فنحن نرى الأشجارَ ماثلةً أمامَنا، ولها وجود مادي مَحسوس، ولكنَّنا لا نَعرِف هُوِيَّةَ الأشخاص الذين قاموا بزراعتها، ولا نَعلَم شيئًا عن زمن زراعتها. أي إنَّنا نتحرَّك في الغابة مُحَاصَرِين بالأشجار، ومَحصورين ضِمن ظُروف آنِيَّة بلا أدنى معرفة بهُوِيَّة الزارع، ودُون امتلاك أيَّة فِكرة عن زمن الزراعة.
وكذلك المجتمع الإنساني، فهو شبكةٌ من العلامات المُتنوعة التي تدلُّ على العلاقات الاجتماعية المُتشابكة، ونسيجٌ مِن الآثار المتعددة التي تُشير إلى المشاعر الوجودية المُتضاربة. وهذا يعني أنَّ الإنسان يَعيش في الواقع خاضعًا للإفرازات الاجتماعية والنَّفْسِيَّة، دُون معرفة طبيعة السُّلطة المعرفية المُتراكمة تاريخيًّا التي تُنتِج هذه الإفرازات.
وبعبارة أُخرى، إنَّ حياة الإنسان تحت الضغوط الاستهلاكية تتكرَّس في حُضور الأثَر الاجتماعي في ظِل غِياب المُؤثِّر الإنساني، وهذا سبب غُربة الإنسان الروحية واغترابه الوِجداني. وإذا كانت الأنظمة المالية تعتمد على غطاء الذهب، حيث يتم استعمال الذهب كقاعدة لتحديد قيمة العُملة، للحفاظ على قُوَّة الاقتصاد، ومنع التضخم، فيجب على الأنظمة الاجتماعية أن تعتمد على غطاء المشاعر الإنسانية، حيث يتم توظيفها كقاعدة للحفاظ على وجود الإنسان معنويًّا وماديًّا، ومنعِ التوحش. وكُلُّ علاقة اجتماعية لا تقوم بقتل الوحش في داخل الإنسان، تُعْتَبَر وصمةَ عار على جبين الإنسانية، ومِعْوَلَ هَدْم في تاريخ الحضارة.
(2)
إذا كان غيابُ الزمنِ واختفاءُ الهُوية هُما مَنبع الحُرِّية في الغابة، فإنَّ العكس هو الصحيح في المُجتمع، أي إنَّ حُضور الزمن وظُهور الهُوية هُما مَنبعُ الحُرِّية في المُجتمع، وفلسفةُ التَّحَرُّر مِن الإفرازاتِ الاجتماعية التي تُمارس الوِصَايةَ على العقل، والإفرازاتِ النَّفْسِيَّةِ التي تُحَاصِر الظواهرَ الثقافية، وتمنعها مِن الانطلاقِ، وتأسيسِ قِيَم إبداعية في تفاصيل الأحداث اليوميَّة.
والزمنُ والهُويةُ يَملِكان تأثيرًا مُتَبَادِلًا، فالزمنُ يُعيد بناءَ الدَّلالات المعرفية في الهُوية، ويُحرِّرها مِن القالب الاستهلاكي، ويُعيدها إلى البراءة والفِطرة، مِمَّا يُكرِّس مبدأَ اليقين في الهُوية، ويُطهِّرها مِن الشَّك. والهُويةُ تُعيد بناءَ المعاني اللغوية في الزمن، وتُحرِّره مِن الصِّدام المُتَخَيَّل بين الأصالة والمُعَاصَرَة، وتُنقِّيه مِن التناقض المصلحي بين التراث والتأويل.
(3)
فلسفةُ التعامل معَ ثنائية (حُضور الأثَر/غِياب المُؤثِّر) في البُنى الاجتماعية تستمد مَعناها وشَرعيتها مِن اختلاف العلاقات الاجتماعية، ولَيس تشابهها، لأنَّ الاختلاف يَكشِف زوايا الرؤية، ويُوضِّح طبيعةَ الأفكار المُتعارضة، وهذا يعني بُروز منهج المُقَارَنَة والترجيح، والمُقَارَنَة لا تَنشأ إلا في ظِل الاختلاف، والترجيح لا يَظهر إلا عِند التعارُض. وهذا يُكرِّس أهميةَ اكتشاف الآخَر، والتواصل معه، والاطِّلاع على أفكاره. وكُلُّ مُبدِع يَملِك أفكارًا نابعة مِن رؤيته ومُستوى تفكيره، ولكنَّ أفكاره مُحاولات للوصول إلى الحقيقة، ولَيست حقائق مُطْلَقَة وثابتة.
والسَّيْرُ في طريق الحقيقة لا يَستلزم الوصول إلَيها. وكَم مِن مُريد للخَير لا يُصيبه!. والأفكارُ المُختلفة هي طريق التكامل لا التصادم، والنقدُ الحقيقي أكثر أهمية مِن المَدح الزائف، والأشخاص الذينَ يُقَدِّمون نَقْدًا قائمًا على قواعد المنهج العِلمي -حتى لَوْ كانوا يَكرهوننا ويَحقِدون عَلَينا-، إنَّما يَكشِفون عُيوبَنا، ونِقاطَ ضَعْفنا، ومواضعَ الخَلَل في حياتنا، وبذلك يُقَدِّمون لنا -مِن حَيث لا يَشعرون- خِدمةً جليلةً وفُرصةً ذهبيةً ومُسَاعَدَةً مَجَّانِيَّةً، لردم الثغرات، وإزالة العقبات، والتخلُّص مِن مواطن النَّقْص، وعلاج نقاط الضعف، وتعزيز مصادر القُوَّة.
والذكاءُ هو الوصول إلى أبعد نُقْطَة مُمكنة بأقل تَكلفة، والعاقلُ يَستفيد مِن أعدائه كما يَستفيد مِن أصدقائه، ويُحوِّل النِّقمةَ إلى نِعمة، والمِحْنَة إلى مِنْحَة، والجاهلُ يَفعل العكسَ تمامًا.
اضف تعليق