هذا الانقسام ينذر بخطر شديد، وما لم يتم حله بسرعة وبطريقة صحيحة فانه يهدد بتمزق المجتمع، وتفكك الدولة، وانا لا اتحدث هنا عن حكومة ونظام سياسي، انما اتحدث عن مجتمع ودولة، وهما قاعدة الحكومة والنظام السياسي، واقول ان الخطر محدق بالمجتمع والدولة، قبل اي شيء...
لا يصعب على المراقب الموضوعي المحايد المستقل ان يلحظ ان المجتمع العراقي لا يشهد انقسامات فقط، انما انقسامات حادة. وهي ليست كالانقسامات التي يشهدها مجتمع متحضر في دولة حضارية ديمقراطية حديثة، انما هي انقسامات كتلك التي شهدها العرب في الدولة العباسية، بين الاشاعرة والمعتزلة، او بين من قالوا بخلق القران واولئك الذين قالوا بقدمه. انها انقسامات تكفي، كما كانت سابقا، لتكفير المسلم، وهدر دمه، انها اليوم تكفي لاطلاق ما لم ينزل به الله من صفات، على الاخرين، ونعوت واتهامات تزخر لها قواميس اللغة العربية الفصحى والعامية.
ليست هذه انقسامات ديمقراطية، لان ما لدينا هو "كيانات سياسية" بطبعة ملل ونحلل، لكل منها زعيم ومريدون، الزعيم يأمر والمريدون يطيعون ويتبعون، كما كان الامر في العصر العباسي. في الدول الديمقراطية الحديثة ينقسم الناس الى احزاب متنافسة متخالفة؛ لكنها متفقة على الاساسيات والاصول وان اختلف في الفروع والتفاصيل، ولا تتبع زعيما كاريزميا مدى الحياة، انما هي تغير قادتها السياسيين كما تغير بدلاتها الصيفية والشتوية.
عبثا حاول الرئيس الاميركي الشعبوي السابق دونالد ترامب كسر هذه القاعدة ولكنه فشل. اضافة الى ذلك فانها تملك برامج عملية تحتوي على حلول اقتصادية واجتماعية لمشاكل المجتمع التي يعاني منها المواطنون. وهذا ما لا نجده في احزاب الملل والنحل العراقية، دخل المجتمع العراقي عالم السياسة، لكنه لم يخرج من عالم الطوائف والملل والنحل، ولم تدخله الحداثة، وتعبيراتها في العمل السياسي الحزبي الحضاري المتمدن.
كياناتنا السياسية اشبه بالقبائل، ليست متفقة على الاصول وليست متفقة على الفروع، انما هي تتداعى بعد كل انتخابات الى الاجتماعات واللقاءات والمساومات لا لبحث كيفية بناء الدولة، وحل مشكلاتها، والتخفيف من معاناة المواطنين وانما لبحث كيفية تقاسم السلطة والاشتراك بمغانمها ومكاسبها على اساس قاعدة ما انزلت بها الديمقراطية من سلطان، وهي قاعدة: "الاستحقاق الانتخابي" التي يُعطى على اساسها كلُّ طرف جزءاً من الدولة يتناظر ويتناسب طرديا مع عدد المقاعد البرلمانية التي حاز عليها.
وهذا ما انتج الحكومات التي يشارك فيها الكل، وهي الحكومات التوافقية التي قامت على اساس المحاصصة. والمفارقة ان هذه الاحزاب لا تستطيع الاتفاق اثناء الانتخابات، ولكنها "تتفق" بعد الانتخابات لتقاسم الحصص الوزارية فيما بينها. ولو كانت احزاب برامج لما كان بمقدورها ان تتفق بعد الانتخابات والاشتراك في حكومة واحدة.
الترجمة الديمقراطية لمصطلح الاستحقاق الانتخابي تنحصر فقط بعدد المقاعد النيابية التي حصل عليها الكيان السياسي بفعل اصوات الناخبين. انت تستحق مقعدا في البرلمان بناء على عدد الاصوات التي منحها اياك الناخبون. الى هنا وينتهي الاستحقاق الانتخابي.
هذا الانقسام ينذر بخطر شديد، وما لم يتم حله بسرعة وبطريقة صحيحة فانه يهدد بتمزق المجتمع، وتفكك الدولة، وانا لا اتحدث هنا عن حكومة ونظام سياسي، انما اتحدث عن مجتمع ودولة، وهما قاعدة الحكومة والنظام السياسي، واقول ان الخطر محدق بالمجتمع والدولة، قبل اي شيء.
ليس من السهل حل انقسام الملل والنحل في العراق، رغم ان الوصفة السياسية لحله معروفة ومتوفرة؛ انها الدولة الحضارية الحديثة، باسسها الكبيرة في المواطنة والديمقراطية وسيادة القانون والمؤسسات والعلم الحديث. ولا حل لهذه المشكلة ما لم يأخذ المجتمع العراقي، وليس فقط الاحزاب السياسية المتناحرة، بسلوك الطريق المؤدي الى الدولة الحضارية الحديثة.
الطريق طويل، لكن من معالمه المهمة على المستوى السياسي الاخذ بفكرة حكومة "الاغلبية السياسية" (لا نحتاج الى اوصاف اخرى) التي تشكلها الكتلة النيابية الاكثر عددا والقادرة على الحصول على ثقة ١٦٦ نائبا.
اضف تعليق