لا تكتفي التشريعات والقيم الاحترازية، بتحصين الإنسان المسلم فردا وجماعة، من أقوال السوء والباطل، وإنما هناك دعوة إلى صناعة القول الحسن، الذي يجذب الناس ويستقطبهم ويحول دون تأثرهم بالأقوال الأخرى.. والقول الحسن مفهوم واسع ويتسع إلى كل الإبداعات والمبادرات الإعلامية والثقافية والاجتماعية التي تكون مصداقا وتجليا...
التشريعات والتوجيهات الإسلامية، لا تلوم الإنسان المسلم على استخدام حريته بكل مستوياتها، وإنما تلومه للغفلة وتعطيل العقل.. لهذا نجد هناك العديد من الآيات القرآنية التي توضح بشكل لا لبس فيه حرمة إكراه أي شخص على تبني دين من الأديان.. فالإسلام دين الحق وهذا لا ريب فيه، ولكن لا يجوز لأي أحد مهما علا شأنه أن يُكره أحدا على اعتناقه.
إذا تأكد الإنسان عبر وسائل موضوعية أو ذاتية أن ما يقوله الطرف الآخر، يعد إساءة تجاه المقدسات أو الأخلاق العامة، فإن في الرؤية القرآنية تتوفر جملة من القيم التي تشكل بمجموعها ما نسميه تشريعات احترازية تحول دون القبول بالإساءات أو تأثيرها على الفضاء الاجتماعي..
وهذه القيم الاحترازية هي كالتالي:
1- الإعراض: الإنسان على كل حال، ليس مجبراً على الإنصات إلى ما يسيء إليه وإلى مقدساته.. فحينما يتمادى صناع القول الإعلامي في ارتكاب الإساءات، فإنني أمتلك القدرة على الإعراض.. وهي قدرة تفقد القول المسيء إمكانية التأثير أو التفاعل..
إذ يقول تبارك وتعالى (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين)، (الإنعام 68)، (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا حياة الدنيا)، (النجم 29)..
فالإساءات تموت بمعنى يتلاشى تأثيرها، حينما يقرر الإنسان أن يعرض عنها، ولا يتفاعل معها ويقول لصانعيها (سلاما).. إذ قال تعالى (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)، (الفرقان 63)..
2- غض النظر: وتتأكد قيمة هذا التشريع الاحترازي (الوقائي) مع تحول الإعلام إلى إعلام الصورة.. وكلنا يعلم أن الفضاء الإعلامي المفتوح في أغلب مؤسساته، يمارس عمله الإعلامي والإعلاني بعيدا عن مقتضيات قيم الدين وتشريعاته ومتطلبات الأخلاق العامة.. لهذا فإن إعلام الصورة يثير الكثير من الغرائز ويعرض الأجساد العارية والبرامج المثيرة لنزعات الإنسان الحيوانية.. ولكوننا لا نمتلك القدرة على منع هؤلاء من العمل والبث الفضائي، ومن جهة أخرى لكي نحافظ على قيمنا الدينية وأخلاقنا الإسلامية والاجتماعية والأسرية، تبرز الحاجة إلى قيمة غض النظر.. فإذا كان الإعلام الغرائزي، يريد أن يهدم قيمنا وأخلاقنا، ولا قدرة لدينا لمنع هؤلاء من البحث، فلا خيار أمامنا إلا غض النظر، لتحصين واقعنا الاجتماعي، وللحؤول دون بروز ظواهر اجتماعية وأسرية لا تنسجم ومقتضيات الدين والأخلاق..
وغض النظر كتشريع احترازي، يتجاوز الموقف الفردي، ويصل إلى بناء أنظمة إعلامية وثقافية تؤدي ذات الغرض وتحقق ذات الهدف من قبيل أنظمة التشفير الفضائي وصناعة أو استئجار الأقمار الخاصة.. ويقول الباري عز وجل في بيان تشريع غض النظر (النور 30 -31)، و(لقمان 19)..
3- القول الحسن: لا تكتفي التشريعات والقيم الاحترازية، بتحصين الإنسان المسلم فردا وجماعة، من أقوال السوء والباطل، وإنما هناك دعوة إلى صناعة القول الحسن، الذي يجذب الناس ويستقطبهم ويحول دون تأثرهم بالأقوال الأخرى..
والقول الحسن مفهوم واسع ويتسع إلى كل الإبداعات والمبادرات الإعلامية والثقافية والاجتماعية التي تكون مصداقا وتجليا للقول الحسن..
فالقول الحسن مطالب أن يقوم به الفرد والمؤسسة وكل الأطر والمؤسسات التي تساهم في صناعة القول والوعي والثقافة في المجتمع..
يقول تعالى (وقولوا للناس حسنا) (سورة البقرة،الآية 83)..
فالمطلوب كتشريع احترازي، ليس فقط لعن ظلام الإعلام المأجور والفاسد، وإنما العمل على بناء الإعلام القادر على استقطاب الناس والتأثير فيهم، ويكون مصداقا كاملا لمفهوم القول الحسن..
فالقول الحسن في تجلياته المعاصرة، يعني العمل على بناء بدائل إعلامية وثقافية، قادرة على استقطاب وتوجيه الناس بكل شرائحهم وفئاتهم، والحد من تأثير الأقوال والمؤسسات المثيرة للغرائز والشهوات..
فالقيم الوقائية والاحترازية، لا تنحصر في الدور الدفاعي الذي يحصن الوضع الداخلي فحسب، وإنما تتعدى هذا الدور للعمل في صياغة البدائل ووفق شروط مهنية وإعلامية متقدمة.. وهذا هو مقتضى القول الحسن.. فجميع الأمم والشعوب لها أقوالها وخطابها ومنظومتها الفكرية والثقافية والإعلامية، وقيمنا الاحترازية تدعونا إلى عدم غلق آذاننا وعقولنا عن هذه الأقوال، ولكن في مقام الأتباع والعمل، ينبغي أن نتبع أحسن الأقوال.. وهذا بطبيعة الحال يتطلب منا أن نحقق مفهوم (أحسن الأقوال) في كل أنشطتنا ومقولاتنا الإعلامية والثقافية..
4- تركيز التعاليم القرآنية في كل قضايا الحياة بدءا من مسائل الاعتقاد إلى قضايا الحياة المختلفة، إلى التدبر والتعقل، وعابت أولئك النفر الذين يمارسون الإتباع سواء لآبائهم أو أهوائهم بدون تدبر وتعقل وتفكر.. ففي القرآن الكريم (49) آية قرآنية تدعو الإنسان إلى التعقل، و(18) آية تدعوه إلى التفكر، إضافة إلى التشجيع الدائم على التعليم والتعلم..
لهذا فإن العقل الإسلامي هو عقل برهاني، بمعنى لا يؤمن بشيء إلا بدليل وبرهان (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (سورة البقرة، الآية 111)..
ولا ريب أن هذه العقلية التي تنميها تعاليم القرآن الكريم وأحاديث السنة المعصومة، تشكل قيمة احترازية أساسية لعدم الانزلاق نحو قناعات وأفكار خاطئة أو منحرفة سوّقتها وسائل الإعلام المثيرة للغرائز، والباحثة عن إنسان لا هم له إلا شهواته الحسية.. فألاعيب الإعلام المضلل لا تنطلي إلا على صاحب العقل المستقيل، أما صاحب العقل اليقظ والوعي المسنود بتدبر وبراهين وحجج، فإنه قادر على كشف زيف الإعلام المضلل وفضحه ومنع تأثيره السلبي على محيطه الاجتماعي..
وحين التأمل في قضايا الدين المختلفة، نجد أن جميع هذه القضايا ينبغي أن يؤمن بها الإنسان إيمانا واعيا وبإرادة حرة.
وبعيدا عن كل أشكال الضغط والإكراه، وعلى رأس هذه القضايا، قضية الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى، نجد أن جميع التوجيهات والتعاليم القرآنية تؤكد حقيقتين أساسيتين وهما:
1- الإيمان بكل لحظاته ومراحله رحلة واعية وبإرادة حرة ووفق أدلة وبراهين تفضي إلى المعرفة الحقيقية والجوهرية بمضمون هذا الإيمان.. إذ يقول تبارك وتعالى(وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون)، (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)، (البقرة 13 – 256)، (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا)، (الكهف 29)..
2- ضرورة أن يكون طريق الإيمان هو المعرفة بكل مضمونها وآفاقها.. (والدليل البين على هذه الفكرة هو أن الإيمان في القرآن عملية إرادية، والإرادة غير متيسرة من دون المعرفة.. على أن المعرفة لا تعد شرطا كافيا للإيمان)..
ويقول تبارك وتعالى في بيان هذه الحقيقة بكل تجلياتها (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون)، (الروم 56)، (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون)، (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين)، (البقرة 42 – 89)، (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب)، (الشورى 14)، (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين)، (النمل 14)..
وهناك روايات مستفيضة تؤكد هذه الحقيقة.. فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (الإيمان معرفة بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان)..
وعليه فإن التشريعات والتوجيهات الإسلامية، لا تلوم الإنسان المسلم على استخدام حريته بكل مستوياتها، وإنما تلومه للغفلة وتعطيل العقل.. لهذا نجد هناك العديد من الآيات القرآنية التي توضح بشكل لا لبس فيه حرمة إكراه أي شخص على تبني دين من الأديان.. فالإسلام دين الحق وهذا لا ريب فيه، ولكن لا يجوز لأي أحد مهما علا شأنه أن يُكره أحدا على اعتناقه..
يقول تبارك وتعالى (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)، (يونس 99)، (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعمّيت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون)، (هود 28)، (إنما أُمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأُمرت أن أكون من المسلمين* وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين * وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون)، (النمل 91 – 93) وغيرها من الآيات القرآنية التي توضح أن مهمة الأنبياء والرسل هي الدعوة والتبليغ، وإن إكراه الناس والأقوام على الإيمان برسالات السماء، ليس من مهمات الأنبياء والرسل..
وحينما تكون اختيارات الناس العقدية سيئة أو لا تنسجم ومقتضيات الدعوة الربانية كما تقررها الآيات القرآنية فإن الجزاء موكول إلى الآخرة.. أي أن العقاب المترتب على بطلان اختيار الإنسان لدينه وعقيدته، هو من اختصاص الباري عز وجل في الآخرة.. إذ يقول تعالى (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا)، (الكهف 29)..
اضف تعليق